قفز إلي ذهني صورة وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس عندما كنت أتنقل بين الفضائيات العربية لملاحقة الأحداث في مصر ولبنان وتونس والسودان والعراق بعدما صار الخبر العربي القطري الداخلي هو الغالب علي سواه من الأخبار الأخري في العالم. عدت بالذاكرة إلي الوراء عندما طرحت إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش مشروع الشرق الأوسط الكبير في مارس 2004، ثم سعت وزيرة الخارجية آنذاك السيدة الشمطاء رايس إلي الترويج له بزعم تشجيع الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في منطقة تشمل العالم العربي كله، إضافة إلي تركيا وإيران وأفغانستان وباكستان وإسرائيل، عندها ظهر للمرة الأولي تعبير "الفوضي الخلاقة" وقصد به وفقاً للمشروع حالة سياسية وإنسانية مريحة بعد مرحلة فوضي متعمدة الأحداث. ورغم أن المصطلح معروف في أدبيات السياسة القديمة، لكنه كان قد تواري واختفي واندثر وكدنا ننساه، لكنه ظهر علي سطح الأحداث مجدداً بعد الغزو الأمريكي للعراق؛ حيث انتشرت فرق الموت، وكثرت أعمال التخريب التي ثبت بعدها أن الجيش الأمريكي كان يحركها بمعاونة ميليشيات شيعية مسلحة تؤمن بأن الخلاص سيكون لدي المهدي المنتظر الذي سيظهر بعد حالة من انعدام الأمن والنظام وانتشار الخراب. حتي الآن لم يظهر المهدي في العراق بعد، ومازالت الجثث تتطاير كل يوم جراء الانفجارات وأعمال العنف، ولم يعد خبراً جديداً من العراق وقوع حادثة تفجير، وإنما نبأ عادي مكرر، ولم تعد أعداد القتلي تمثل إلا رقماً قد يختلف من يوم إلي آخر صعوداً أو هبوطاً. عموماً سقط المشروع حتي قبل سقوط المحافظين الجدد وفشل الحزب الجمهوري في البقاء علي رأس الحكم في الولاياتالمتحدة إذ اعترضت الحكومات وربما معها الشعوب علي الفكرة؛ إذ يكفي أن توضع إسرائيل في سلة واحدة مع دول عربية وإسلامية سبباً لسقوطه، فالدول العربية والإسلامية تفضل دائماً "التعاون" الثنائي مع إسرائيل علي انفراد سواء أمام العدسات والمصابيح أو بعيداً منها، ولكن يبدو أن الفكرة مازالت قائمة بل وتتفاعل ما يدعو إلي التساؤل: هل كانت رايس تسوق لمشروع أم أنها كانت تتوقع حدوثه؟. بغض النظر عن نيات بوش الابن وإدارته التي ولت، فإن الإصلاح في العالم لم يكن أبداً هدفاً أمريكياً إذا ما تعارض مع مصلحة أمريكية، هذه واحدة، أما الثانية فإن جمع العرب والمسلمين مع إسرائيل في مشروع واحد بدا وكأن المطلوب من ورائه الإساءة الي العرب أو إذلالهم، فمن يطلبون الإصلاح والأمن مضطرون للعيش مع إسرائيل، أما من يطلب الحماية والإصلاح فلا حماية له إلا بحماية إسرائيل. عموماً ما يجري علي الساحة في المنطقة الآن لا يمكن فصله عن مخططات ربما ساعد علي تنفيذها، رغم غياب أصحابها، سوء الأحوال في المجتمعات العربية عموماً والهوة بين الحكام والشعوب ومشاكل ومعضلات بدأت صغيرة ولكنها كبرت مثل كرة الثلج ظلت تنمو وكأنها تتجه لتسحق تحتها الجميع. اعترضت الحكومات علي "مشروع الشرق الأوسط الكبير" الذي عُرف وقتها باسم "مشروع كوندي" وشعرت الحكومات بالراحة بعد رحيل السيدة السمراء واعتبروا أن الإصلاح لم يعد لازماً طالما أن لا جهة خارجية تطالب به، علماً بأن الداخل العربي كان يطالب بالإصلاح دون جدوي، ويحتاجه دون استجابة. عموماً فإن المسئولية الأمريكية عما جري ويجري في العراق والسودان والصومال ولبنان لا مجال للنقاش حولها؛ فالأدلة ثابتة دامغة موثوق فيها، أما التفاعلات داخل الدول العربية، سواء في تونس أو اليمن أو مصر أو غيرها فإن من السهل البحث عن شماعة خارجية نعلق عليها أخطاءنا لنريح أنفسنا وندعي أن مختلاً عقلياً يحرك الأحداث أو أن أصابع خارجية تعبث أو أن مشروع "الفوضي الخلاقة" الأمريكي بُعث من جديد، لكن الحقيقة أن الفوضي تضرب دون جهود أمريكية أو أصابع خارجية أو أمراض نفسية، إنها أخطاء لم تعالج في حينها وتم ترحيلها من يوم لآخر وسنة لأخري حتي صار التعايش معها من المستحيلات. أكاد أتخيل السيدة كوندي وهي تتابع الأحداث وتبتسم؛ فأحلامها تتحقق دون أن تنام، تتحقق وتراها وهي مستيقظة، عجزت كوندي عن تنفيذ مشروعها حين كانت في السلطة وتحولت أحلامها الآن إلي أوامر، فقط تركت موقعها بينما تولينا نحن تنفيذ مشروعها، فالتجارب السابقة أثبتت أن العرب لا يؤدون غالباً الواجب المفروض عليهم، بينما يتفانون ويعملون بالروح والدم من أجل تحقيق آمال غيرهم أو حتي.. عدوهم.