سيطرت أنباء تونس علي ما عداها من أخبار خاصة بعد أن أدي حادث محدود في هذا البلد، الي تداعيات خطيرة أقلها شأنا من وجهة نظري هو انصراف رئيس الدولة وهروبه الي الخارج بعد أن افتقد القدرة علي وقف الاحتجاجات في الشارع ، وبعد أن تخلت عنه أجهزة الأمن التي طالما أخضعت الشارع لارادته . أقول ان خروج الرئيس "الزين " من الحكم هو أقل الأخطار علي تونس نظرا لحالة الفوضي التي عمت البلاد وأدت الي خسارة مواطنين تونسيين لحياتهم وممتلكاتهم وتجول عصابات مسلحة في الشوارع تروع المواطنين، وغياب القيادة القادرة علي السيطرة ، حتي كتابة هذه السطور وقد مضي علي خروج الرئيس المخلوع نحو أربعة أيام تعاقب فيها بعده علي الرئاسة المؤقتة الوزير الأول ومن بعده رئيس البرلمان التونسي . المشكلة القائمة حتي الآن هو عدم وضوح مركز العاصفة الاحتجاجية الي اجتاحت تونس اذا جاز هذا التعبير ، ما نشرته وسائل الاعلام عن سبب نشوب النزاع القاتل بين الشارع وبين السلطة في تونس هو حادث وقع في أحد شوارع مدينة تونسية ، يحدث مثله آلاف الحوادث يوميا في تونس وغيرها . محمد البوعزيزي شاب تونسي مولود في سيدي بوزيدبتونس عام 1984 ، من حاملي الشهادات الجامعية العاطلين عن العمل . قام يوم الجمعة الموافق 17 من ديسمبر الماضي بإضرام النار في نفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد احتجاجاً علي مصادرة السلطات البلدية في مدينة سيدي بوزيد لعربة كان يسترزق منها ببيع الخضار والفواكه، واحتجاجا علي رفض سلطات الولاية قبول شكوي أراد تقديمها في حق شرطية صفعته أمام الناس في السوق . هذه الحادثة أدت في اليوم التالي وهو يوم السبت 18 ديسمبر عام 2010 إلي احتجاجات من قبل أهالي سيدي بوزيد ، فنشبت مواجهات بين مئات من الشبان في منطقة سيدي بوزيد وقوات الأمن. المظاهرة كانت للتضامن مع محمد البوعزيزي والاحتجاج علي ارتفاع نسبة البطالة ، واهمال تلك الولاية الداخلية. سرعان ما تطورت الأحداث إلي اشتباكات عنيفة وانتفاضة شعبية شملت معظم مناطق تونس احتجاجاً علي مااعتبروه أوضاع البطالة وعدم وجود العدالة الاجتماعية وتفاقم الفساد داخل النظام الحاكم. حيث خرج السكان في مسيرات حاشدة للمطالبة بالعمل وحقوق المواطنة والمساواة في الفرص والتنمية ، تلك المسيرات التي أدت إلي هرب الرئيس زين العابدين بن علي وسقوط نظامه في أقل من شهر. مركز العاصفة المكاني معروف وهو مدينة بوزيد، الشرارة التي أطلقت الأحداث وهي انتحار شاب حرقا بسبب حادث ناتج عن احتكاك مع شرطة المرافق التي من مهامه منع الباعة الجائلين في بعض المناطق ، وكذلك رفع اشغالات الطرق ، ماذا أدي اذن الي التوسع في الاحتجاجات حتي وصلت الي هذه المرحلة الخطرة. قد يبدو الحادث الأول عشوائيا ناتجًا عن ضيق الشاب البوعزيزي واتخاذه قرارا بالاحتجاج حرقا علي تدمير السبوبة التي يتعيش منها ، والصفعة الناعمة التي تلقاها من الشرطية التي أهانته أمام قومه ، لكن ماتلا ذلك من أحداث لا يمكن أن يكون عشوائيا ، بل علي الأرجح تلقي الحادث العشوائي جناحًا خفيضًا في السلطة غير ظاهر للعلن له تأثير في مسار اتخاذ القرارات رآها فرصة للتخلص من الرئيس والحكومة والنظام الحاكم دفعة واحدة . يميل المحللون الذين عبروا عن رؤيتهم حتي الآن الي نفي قدرة المعارضة التونسية في الخارج علي تدبير أي عمل داخل تونس ضد نظام بن علي ، كما قالوا ان اعلاناتها السريعة بمباركة التحرك الشعبي الذي تصاعد تدريجيا علي مدي أسبوعين حتي أدي الي الاطاحة بالنظام لا تعني أن لها يدا في ذلك ، كما أن عودتها السريعة لن تكون ذات فائدة ، اذ أن المحرك الحقيقي للأحداث سوف يظهر حتما ليحصد مكاسبه . أخشي ما أخشاه أن تستمر حالة الفوضي لوقت أطول في محاولة لاقناع الشعب التونسي بقبول ما سوف يطرح عليه من حلول تجنبا لمزيد من الخسائر ، أما القول بأن الأحداث جرت وتصاعدت بشكل عشوائي فذلك ما لانقبله بأي أحوال ، وما نحذر منه هو أن يفهم البعض منا ما جري بطريقة خاطئة جريا وراء تحليلات غير منطقية بالمرة.