في رأي جيل دولوز وفليكس غاتاري أن رسائل كافكا هي نسيج عنكبوت. هناك شيء يشبه طبيعة مصاصي الدماء في تلك الرسائل. دراكولا النباتي، الفنان الجائع، الذي يشرب الدماء من اللحم البشري، بشرط أن تكون قلعته قريبة منه. هناك شيء من طبيعة دراكولا في كافكا، دراكولا الذي يعمل عن طريق الرسائل، والرسائل هي مثل الخفافيش التي تطوف ليلاً، الآن في النهار الخفافيش محبوسة في مكتبه التابوت. الليل ليس ليلاً بما فيه الكفاية. علينا أن نتخيل قبلة لعابها مداد القلم، ونابها سن تنغرس في الصفحة البيضاء، قبلة حيوان يلعق بشراهة ينبوع ماء عذب بعد رحلة بحث طويلة. يصف نفسه في رسالة لفيليسا دون خجل من أنه نحيف بشكل مبالغ فيه، وأنه يحتاج إلي دماء، قلبه ضعيف لدرجة أنه لا يستطيع بعث الدماء إلي نهاية ساقيه الطويلتين. كافكا أم دراكولا لديه خط هروب في غرفته، في سريره، وقوته النائية تأتي من ماذا؟ ستجلب له تلك الرسائل قوته. الرسائل يجب أن تجلب له الدماء، والدماء ستعطيه قوة للكتابة. إنه لا يبحث عن إلهام أنثوي أو حماية أمومية، ولكن عن قوة جسدية تمكنه من الكتابة. يعتبر كافكا الكتابة سداد دين لخدمات الشيطان، لم يكن خجلاً من نحافة جسده أو من فقدانه لشهية الطعام، لكنه فقط كان يتظاهر بذلك حتي يكون تحت رعاية خاصة. ولكن ما هي تلك الرسائل؟ إنها فقط إرسال الرسالة، مسار الرسالة، إيماءة ساعي البريد التي ستحل محل الموضوع، بالتأكيد أهمية ساعي البريد، مضاعفة. وإليكِ قصة هذا الخطاب. كتبته علي أثر حلم غامض كنتِ فيه مع شخص مُنفِّر نسيتُ اسمه الآن. وكان اسمه حاضراً في الحلم والخطاب كقدر مشئوم بيننا. قمتِ بتسليم الشخص المجهول كل الرسائل التي كتبتها لكِ. كان هذا التسليم يشبه انتحاراً بارداً من قِبَلكِ. وكنتُ أنا بالمقابل قد قمتُ بإطلاع الشخص المجهول نفسه علي سر جارح عنكِ. أذكر جيداً أن هذا الانتحار لم يكن من قِبَلكِ وقِبَلي كفعل ورد فعل، لم يكن انتقاماً علي أثر شيء حدث بيننا، لم يكن مُتعاقباً في الزمن علي اعتبار أن نصفه حدث في زمن الحلم والنصف الآخر خارج زمن الحلم، ولم يكن أخيراً الشخص المجهول يملك سُلطة علينا إلا إذا كانت شراهته للطعام هي الرمز الأكثر غموضاً للسُلطة. كان هذا الانتحار بكلمات أخري قَدَم يأس. ذهبتُ إلي مكتب البريد في الصباح، فوجدتُ أعمال ترميم قائمة في المكان كله. ارتبكتُ أيما ارتباك، وكأنَّ مكتب البريد اختفي فجأة. شعرتُ بيأس طاغ، وزاغتْ نظرتي هائمة علي خراب المكان. كانت الأماكن دائماً عندما تتعرض لترميم تصيبني بكآبة ويتْمٍ موجع. لاحظ أحد العُمَّال نظرتي التائهة، فأشار لي ببساطة إلي خلفية المبني. سألتُ نفسي كيف سيعود المكان كما كان عليه، بل أفضل، بعد شهور قليلة. في الطابق الثاني من خلفية المبني كانت نظرة الضياع واليتْم ما زالت عالقة بي. كنتُ خَجِلاً منها، فهي تجعل الجميع يقدمون لي الخَدَمَات بشكل استثنائي، وكأنني طفل فَقَد أمه. شرحتْ لي الموظفة بتفصيل شديد طريقة الوصول للمكانين المؤقتين لبعث الرسائل، ولم يكن أحد المكانين سوي كُشك سجائر صغير أمامه صندوق بريد. رجل يقع في غرام امرأة رآها مرة واحدة فقط، يعتبر مثالاً حقيقياً علي الحب الكافكاوي، أطنان من الرسائل، ولكنه لا يقدر أبداً علي الزيارة، يبقي الرسائل قريبة منه في صندوق، وبعد يوم الإنفصال، يبقي مع الرسالة الأخيرة التي وصلت إليه، المراسلة مع فيليسا باور مملوءة باستحالة الزيارة، تدفق الرسائل يحل محل الرؤية والوصول. لم يتوقف كافكا أبداً عن الكتابة لفيليسا، ومع ذلك هو لم يرها إلا مرة واحدة في حياته. بكل قوته يحاول أن يفرض شروط التحالف مع الشيطان. تحالف فاوست مع الشيطان يجد مصدره في القوة النائية. لا يستطيع دراكولا أن يشعر بالذنب، ولا يستطيع كافكا أن يشعر بالذنب، وفاوست ليس مذنباً، وهذا ليس نفاقاً، فالقلب في الحقيقة يكذب في مكان آخر، لا يستطيع كافكا أن يفهم أي شيء عن المعاهدة الشيطانية إذا اعتقد أنه تحالف يمكن أن يولد فيه إحساساً بالذنب.