عندما كنا صغارا كان آباؤنا ومعلمونا يقصون علينا قصة الولد والذئب كلما كذب أحدنا.. فالصبي كان يكذب كثيرا قائلا إن الذئب قادم ليهاجم القرية، وفي كل مرة كان يصدقه أهل القرية ويخرجون ليروا الذئب، لم يجدوا إلا أن الصبي كان يكذب.. ولكن لما جاء الذئب فعلا وهاجم الصبي وكان الصبي يصرخ من الرعب والألم، لم يصدق أهل القرية صراخه، ولم يحرك أحد ساكنا ولا قاموا من أمكنتهم لينظروا حقيقة الصراخ.. فقد كانوا حينها متأكدين أن الصبي يكذب!! وتلك مشكلة واحدة من عدة مشكلات تحيط بالكذب ذ الذي أحيانا ما نطلق عليه عدم الشفافية لتجميل الفعل.. هذه المشكلة هي تكرار رواية غير صحيحة لتبرير الأحداث.. وهي في وقت تكرارها تبدو مناسبة لحل الموقف أو لتقديم ما يبرره وقتيا.. ولكن تأتي مرحلة تحل فيها الحقيقة.. وقد تكون الحقيقة مجرد محاكاة للقصة المتجملة.. مجرد مصادفة.. وقتئذ لن يصدق أحد الحقيقة لأنها أتت علي خلفية من تكرار قصص غير حقيقية.. ظاهرة أخري تظهر انعدام الشفافية واختفاء الحقيقة هي اختلاف الروايات.. وهي معروفة في الدوائر الأمنية والاستخباراتية علي مستوي العالم.. فإذا اختلفت روايات الشهود ظهر الكذب أو عدم قول الحقيقة.. ونحن أيضا نعاني حالات التوهان تلك عندما يخرج علينا الإعلام بروايات كثيرة مختلفة تماما عن بعضها البعض.. وقد تكون مصادر الإعلام غير دقيقة أو غير أمينة مما ينتج اختلافات كبري بين الروايات.. وهذا بدوره يؤدي إلي فقدان الثقة بين الجمهور الذي يتلقي الخبر والإعلام الذي يصدر تلك الروايات.. وبدلا من أن يتلهف الناس لمعرفة الأخبار الحقيقية من مصادر يثقون فيها، يقومون بتكذيبها واختلاق ما يرونه مناسبا لما يعتمل في نفوسهم ويصيرون ضحية لأوهامهم أحيانا.. ويعتبر نصف الحقيقة أيضا من الأكاذيب.. ففي قَسَم المحكمة في بعض الدول يقوم الشاهد بالتعهد بأن يقول الحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة... لأن الاكتفاء بجزء من الحقيقة ثم إضافة بعض الكذب له.. أو مجرد إخفاء بعض الحقائق قد يأتي برواية تختلف تماما عما جري في الواقع.. وتلك أيضا ظاهرة تجعل الرواية غير قابلة للتصديق.. فإتيان أجزاء متفرقة من الحقائق في هذه الجريدة أو تلك القناة الفضائية يشوه الصورة الكاملة للخبر.. ويزيد من حالة التوهان التي يعانيها الجمهور في طريقه للبحث عن الحقيقة.. والمحصلة النهائية أن الإعلام صار كالصبي والقصص الإخبارية مثل قصة الذئب.. وغالبا ما تجري الجماهير وراء الإعلام لمعرفة الحقيقة ولا تصل إليها واضحة.. ومن ثم يصبح الحل الوحيد لتوليف رواية واحدة هو أن يجمع كل واحد أجزاء من الحقيقة وأخري من الأكاذيب ويضيف إليها ما يتمناه أو يخشاه ثم يجمع تلك جميعا كما يجمع اللاعب قطع (البازل) ويكون صورة واحدة لما يعتقد أنه الحقيقة.. ويصير لكل واحد منا صورة ناقصة مغلوطة كاذبة مخلوطة تاهت منها الحقيقة.. وفي النهاية يقتل الذئب الصبي ويتحول ليهاجم القرية كلها بمن فيها..