** لم أكن مؤيدًا أو رافضًا لعودة مسابقة الدورى المصرى إلى الحياة مرة أخرى.. كنت أقف على الدوام، وطوال الفترة التى شهدت التراشق والاشتباك، بين طرفين.. مع أو ضد.. عودة المسابقة، على الحياد، لا أميل إلى جانب دون الآخر، رغم أنه كان من المنطقى والطبيعى جدا، أن يكون لى موقف بعينه، وهو بالقطع تأييد عودة الدورى طبعا، ومساندة هذا الاتجاه بكل ما أوتيت من قوة، لا لشىء سوى أننى واحد من عناصر المنظومة، التى تضم الكثير من العناصر، ومن بينها طبعا الإعلام، وبحكم وجودى طرفا فى هذه المنظومة، فى وسيلتين.. الصحافة والتليفزيون، كان من الواجب أن يجعلنى هذا أكثر تشددا فى المطالبة بالعودة، وانتظارها.. بل والصراخ والنحيب من أجل الضغط على صانع القرار، كى يبادر إلى ما يطالب به الصارخون.. تماما مثلما فعل الكثيرون! ولكننى لم أفعل، وأظن أننى لن أفعل أيضا لأننى كنت أرى دوما، أن المسألة ليست مجرد مباريات كرة القدم، ولا هى مجرد 90 دقيقة لعب، وفريقين.. وطاقم تحكيم، ونتيجة بفوز أحد الفريقين، أو الانتهاء إلى حالة التعادل، بل الحكاية أكبر من ذلك بكثير، وأعقد من ذلك بكثير، وربما أن من طالبوا بعودة المسابقة، كان لديهم كل الحق حين طالبوا بذلك، لأنهم نظروا إلى عودة الدورى بشكل بسيط.. وبصورة مسطحة، واعتبروا المسألة مجرد لعب.. ومجرد مباريات.. وصافرة تدشن النشاط، وتطلق المباريات، وتنهيها.. أو تحتسب خطأ أو ضربة جزاء هنا أوهناك، وهى تعكس الرؤية الضيقة.. القاصرة، التى كنا ننظر بها إلى الرياضة، ولا نزال.. ومنذ أكثر ما يقرب من مائة عام، بينما الأمر أكبر، وأهم، وأعمق من هذا تماما، وبعيدا عن وصفى للرياضة، وكرة القدم قبل عدة سنوات بأنها صناعة، وعمل منظم وكبير، وهو التعبير الذى راج بعدما أطلقته، وإلى الآن، ولكن ظلوا يرددونه دون أن توجد القناعة الداخلية به، وبمعناه، ولذلك كانت المطالبة بالعودة.. لا تعبر عن قناعة بفكرة الصناعة، لأن صناعة فى هذا المجال مثلها مثل أى نشاط آخر هى نتيجة لباقى مجالات المجتمع، وليست مقدمة، بمعنى أن كرة القدم لا يمكن أن تكون "دليلا" على استقرار الوطن كما قال البعض والمفترض أن تكون "نتيجة" لاستقرار المجتمع ككل، وتعالوا نتخيل أن الدورى قد انطلق بالفعل، أو أن الموعد، الذى تحدد لانطلاقه كان يومى الثانى والعشرين والثالث والعشرين من نوفمبر الحالى، أى يومى الخميس والجمعة الماضيين، فماذا سيكون الحال وقتها؟!! فى هذين اليومين كان الشارع يعانى من حالة سخونة.. واحتقان، وكانت البداية بالتحديد يوم الخميس الماضى، حين أصدر رئيس الجمهورية إعلانا دستوريا جديدا، وعددا من القرارات المهمة، فى وقت كانت بعض القوى السياسية قد دعت إلى النزول للشارع فى اليوم التالى، وقد حدث ودون الدخول فى التفاصيل أن تسبب ما أعلنه رئيس الجمهورية، فى ردود فعل فى أكثر من اتجاه، وجرى التصعيد سريعا ووصل إلى ذروته طوال يوم الجمعة، استكمالا لمناوشات كانت قد بدأت بالفعل قبل أيام، فى شارع محمد محمود وما حوله بدءا من يوم الاحتفال بالذكرى الأولى لأحداث شارع محمد محمود، التى وقعت العام الماضى!! والسؤال الآن: كيف تقام مباريات فى مثل هذه الأيام؟ هل كان من المعقول إقامتها من الجانب العملى؟ هل كان ممكنا أن تقوم الشرطة بدورها فى تأمين المباريات فى مثل هذا الجو الملتهب؟ من كان سيجد نفسه قادرا على متابعة هذه المباريات.. والبلد كله يعانى حالة من عدم الاستقرار؟ هل من المقبول أن يلعب البلد الكرة وهناك حرائق وغاز مسيل للدموع وحرق لمبان ومدارس ومقرات لحزب الحرية والعدالة؟! قرار عودة الدورى بات قرارًا شديد التعقيد، وربما أنه صار الآن خارج سيطرة الألتراس أنفسهم، فهم من قالوا لا عودة إلى اللعب قبل القصاص، ولكن اختلف الحال الآن، بمعنى لو وافق الألتراس أنفسهم غدا على عودة الدورى، فلن تكون كلمتهم الضوء الأخضر أبدا، لكى يهرول الجميع فرحا بالموافقة، وأن انطلاق المسابقة لم يعد حلما، والحقيقة.. أنه صارت هناك صعوبة وربما استحالة فى عودة الرياضة إلى ما كانت عليه من قبل، وكرة القدم، والدورى الممتاز على وجه التحديد، فى المنظور القريب.. لا أظن أن القرار سهل، أو فى متناول اليد، ولو حدث وانطلق الدورى، فلن يعيش كثيرا، لأنه قد يكون وسيلة، أو ساحة خلفية لأحداث عنف، أو شغب، استغلالا لتجمعات قد تتكون بالفعل، خارج الملاعب، فى حالة إقامته بدون جمهور، فما بالنا بمن يضع ساقا على ساق، ويطالب باللعب فى حضور الجماهير.. منتهى الغيبوبة!! ربما لو كان من تحمسوا لعودة الدورى، قد تأملوا أحوال البلد على امتداد الأشهر الماضية، وهى مسألة تحتاج إلى فهم.. ووعى.. وعمق.. وموضوعية.. وتغليب المصلحة العامة، وطرد الأنانية والذاتية، لأدركوا أن فى الأمر صعوبة، أو على الأقل لا تعد الأجواء ملائمة للعودة، وقد وصلت إلى قناعة كاملة وبالأخص بعدما جرى خلال الأسبوع الماضى من أحداث بأن من يريد عودة الدورى، يذكرنى بواحد يريد لعب دور طاولة، وهو بالقطع نشاط الهدف منه الاستمتاع، وقضاء وقت طيب، وهو ما يحتاج إلى ذهن صاف، ومزاج عال، وبال رايق، بينما البيت الذى يريد أن يلعب فيه.. أغلب من يعيشون به، "داخلين خناقة" تتطاير فيها الأطباق، وتتعالى خلالها الأصوات، ويمسك فيها أكثر من طرف بتلابيب الآخر.. وأقل أو أخف ما يحدث داخله، وهو الحادث أغلب الوقت.. هو الصراخ، والتلاسن، والتراشق اللفظى، وتبادل الاتهامات!! لو كان لدينا من يفهم حقيقة فى الإدارة، أو كرة القدم، لكان من الواجب عليه، أن يدرس كل الاحتمالات، ولا يراهن فقط على شىء واحد، أو يجلس واضعا يده على خده، انتظارا للعودة، بينما كان عليه أن يرتب الأوضاع فى حالة عدم العودة، أو فى حالة العودة ثم توقف المسابقة بعد إقامة عدد من الجولات.. وهو ما لم يحدث، ولن يحدث، لأن اتحاد الكرة حين اجتمع، ومعه ممثلون للأندية، خرج بموعد لانطلاق المسابقة، وحدد 15 ديسمبر.. فعلوها وهم أنفسهم يعلمون جيدا أن هذا لن يتم بهذه الصورة، ولكنهم أرادوا أن يقولوا "أهو أدينا عملنا اللى علينا".. بيرموها يعنى فى ملعب طرف آخر، وهو بالتأكيد الداخلية.. هم يريدون تغطية أنفسهم فقط، فهم لا يقدرون على أكثر من ذلك!!