يوسف الحسيني عاما كاملا قد مر بكل ما فيه من صراع حمل كل لون و بين الجميع دون أي مبالغة و قد يظن البعض أن ما دار في مصر ما هو إلا صراع بين الاخوان و بعض محترفي الظهور السياسي و المؤسسة العسكرية على الحكم و ان كل منهم يبحث عن مكتسباته الخاصة من خلال الوصول الى دائرة القرار ، او ان المسألة لم تكون الا صراع وجود يحاول فيه الاخوان ان يتشبثوا بآخر خيوط الحياة للتنظيم الذي بذلوا من اجله كل ما أعطتهم الدنيا إياه بل و ذهب الخاصة و لن أصفهم زورا بالمثقفين الى ما ذهب اليه العامة من الناس الى رؤية الحال في البلاد على هذا المنوال ، و لعل الكاتب أراد في السطور القادمة ان يعرض وجهة نظره فيما رأى عليه احوال العباد من أهل المحروسة خلال عاما انقضى و عاما قادم في ضوء المتغيرات الاجتماعية و السياسية التي مرت بها مصر خلال 63 عاما كان للاحلال الطبقي فيها الدور الرئيس فيما وصلنا اليه عام 2011 و ما قد يصل بنا في نهاية 2014 و كيف ان ما تم وصفهم بالطبقة المثقفة المصرية الحالية هي مسبب بلاء حاق بالوطن و نستثني منهم اقل القليل الذين يقل عددهم عن العشرة . نبدأ هنا بالمصطلحات التي يستخدمها أشباه "المثقفون" دون نقد أو تمحيص أو إعادة نظر من وقت لآخر. وأحد أهم المصطلحات الرائجة هو "الطبقة الوسطى"، الذي يقترن ذيوعه أيضاً بصورة ذهنية معينة – في السياقات الفكرية والأدبية والإعلامية، – تجعله دائماً حديث بكاء على الأطلال. وما إن ينطق أحدهم: "يزداد الأغنياء ثراء والفقراء عوزاً" حتى تدور الأفكار في خلد أصحابها وأين الطبقة المتوسطة المطحونة ؟! . لذلك وجب السؤال ما هو التعريف الأكثر دقة لمفهوم الطبقة المتوسطة وما الذي تتوسطه؟ هل تتوسط طبقتين أم أكثر؟ وكيف نشأ المصطلح؟ وما هي محددات هذه الطبقة ؟ نبدأ اولا بالتفسير اللغوي المباشر البسيط. فالوسطى هي تأنيث الأوسط، والأوسط هو ما يتوسط طرفين هل فكرنا يوماً أن الطبقة "الوسطى من الممكن ان تتوسط ثلاث طبقات تحتها وأربع طبقات فوقها؟ أم أن السائد هي أنها تتوسط طبقتين، قد نختزل التعبير عنهما في كلمتي "الأثرياء" و"الفقراء ؟! و هذا الطرح لا يأتي من باب السفسطة لأن تراثنا العربي زاخر بالأدبيات التي ناقشت "وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ" في حين أن تقسيمات ابن خلدون وغيره يمكن إمعان النظر فيها كنوع من كسر الاختزال لدرجات الناس؛ أعلى وأسفل، وبينهما "وسط". وعن مصر تحديداً كتب المقريزي في " إغاثة الأمة بكشف الغمة" في القرن الخامس عشر الميلادي: "أن الناس في إقليم مصر على سبعة أقسام (أي طبقات)؛ القسم الأول: أهل الدولة، والقسم الثاني: أهل اليسار من التجار وأولي النعمة من ذوي الرفاهية، والقسم الثالث: الباعة وهو متوسط الحال من التجار، ويقال لهم أهل البز، ويلحق بهم أصحاب المعاش وهم السوقة، والقسم الرابع: أهل الفلح، وهم أهل الزراعات والحرث وسكان القرى والريف، والقسم الخامس: الفقراء، وهم جل الفقهاء وطلاب العلم والكثير من أجناد الحلقة ونحوهم والقسم السادس: أرباب الصنائع والأجراء أصحاب المهن، والقسم السابع: ذوو الحاجة والمسكنة، وهم السؤال الذين يتكففون الناس ويعيشون منهم" . و قد يكون السر في ان أشباه المثقفين في مصر أخذتهم العجلة في فهم الأدبيات الماركسية حول الثنائية الطبقية التاريخية حتى انه لا يكاد ان يتعرض ماركس لمصطلح "الطبقة الوسطى"، الا أن له البصمة الأوضح في إبراز فكرة الصراع الطبقي؟ كما انهم لم يلاحظوا أن أول من تكلم عن الطبقى الوسطى في مصر هو "أنطوان كلوت" – الطبيب الفرنسي الذي أوكل له محمد علي بمهام مختلفة ومنحه لقب "بك" فصار معروفاً ب "كلوت بك" – حيث أدلف من توطئته حول خصوصية مصر عن غيرها من البلدان والأقطار بقوله: "إن معظم الأمم العربية قد تكونت على أثر تخلصها من الغارات والفتوحات مما جعلت هذا المجتمع خليطاً لنوعين من الأجناس (الطبقات)؛ الأجناس الغالبة، والأجناس المغلوبة على أمرها، حيث كانت الطبقة الغالبة تتكون من الفاتحين، بينما الطبقة الثانية تمثل عامة الشعب. ولكن إلى جانب هاتين الطبقتين ظهرت طبقة ثالثة تدعى بالطبقة الوسطى، التي أخذ نفوذها يمتد شيئاً فشيئاً حتى إذا ما بلغت مستوى الطبقة الشريفة حصلت على المساواة بها في الشؤون المدنية" . كيف نحدد الطبقة؟ ولو تجاوزنا المفهوم اللغوي للطبقة الوسطى وتحدثنا بشكل إجرائي عن الطبقة الوسطى في مصر، فما هي محدداتها؟ نجد ان المقريزي قد استخدام المدخل المركب في تحديد الطبقات (السبع لا الثلاث)، فقد بنى تقسيمه في ضوء الدخل وأسلوب الحياة والمهنة، في حين يصر أشباه المثقفين على إتحافنا بين الحين والآخر بمحدد واحد للطبقة. ورغم وجود دراسات سوسيولوجية مصرية ترجع إلى سبعينيات القرن الماضي وتدرس التكوين الطبقي ومحددات الطبقة، إلا أن السائد في الكتابات الانطباعية في الكتب المتداولة و الصحف هو التجاهل التام للأدبيات الأكاديمية والارتماء في أحضان الاختزال السطحي. اعتراضي هنا موجه ضد أولئك الذين يحددون الطبقة في ظل علاقتها بالدولة والنظام الحاكم فقط بدون اضافة مكانة كل طبقة ودورها الاجتماعي بمفهومه الواسع الذي يشمل التنشئة الاجتماعية للأفراد والضبط الاجتماعي. و هنا تجرنا الكتابات الاختزالية إلى تلك اللحظة العارضة التي برز فيها تأثير "طبقة متوسطة" من المصريين على مجريات الأمور العامة والتاريخية، كتشكيل الأحزاب المصرية وثورة 1919 وتحريك الشارع المصري في مواجهة الاحتلال وتواطؤ النظام الملكي ثم ازدهار لهذه الطبقة بتولي فئة من هؤلاء "الأواسط" مقاليد البلاد ورقاب العباد . والجانب الثاني للخلل هو الاقتصار على "الطبقة الوسطى" الحضرية في مجتمع أغلبيته ريف أو شبه ريف. فهل قرأنا يوماً ل "مثقف" أو سمعنا عن "مفكر" يحن إلى الدور التاريخي الذي كانت تؤديه الطبقة الوسطى الريفية؟ هل فكرنا يوماً ونحن نهفو إلى ذكريات "الطبقى الوسطى" أن مصر أوسع من القاهرة الكبرى والإسكندرية وبعض المناطق القليلة في الدلتا؟ بل إن أغلبية سكان المحروسة هم خارج هذه البؤر المركزية التي تستأثر بتصريف شؤون البلاد والعباد؟! . حينما أنظر سريعاً إلى التراث الأكاديمي المصري الحديث، خاصة غير المنشور، في دراسة الطبقات الاجتماعية أجد العجب مما لا يتعرض له احد في حديث الفضائيات والكتب الأكثر مبيعاً ومقالات المشاهير. فالدراسات السوسيولوجية الحقيقية – لا الانطباعية – مجهولة لأغلب الناس. فمن يعرف د محمود عبد الفضيل ؟ و هو واحد ممن أثروا المكتبة الأكاديمية بدراساتهم متعددة المداخل والمنظورات ومقاييسهم مركبة المحددات من أجل رصد الوضع الطبقي في مصر في أزمنة معينة في العصر الحديث وفهمه وتفسيره و استلهم منه بعض من خلاصاته في دراسة طبقات المجتمع عن طريق طرح أسئلة مثل مئات الألوف من السيارات "المتوسطة" تجوب شوارع القاهرة والإسكندرية. فمن تخص هذه السيارات؟ الفقراء أم الأثرياء؟ . ملايين المصريين يحملون شهادات جامعية، منهم مئات الألوف يحملون درجة الماجيستير، ولْنقُلْ إن عشرات الألوف يحملون الدكتوراة. فإلى أي طبقة ينتمي أغلب هؤلاء؟ الجامعات والمدارس الأجنبية والخاصة تعج بملايين التلاميذ والطلاب. أُسَر أي طبقة ترسل أبناءها إلى هذا النوع من المؤسسات التعليمية؟ النقابات المهنية تئن من أعباء أعضائها المتزايدين وهم عشرات الألوف المؤلفة. فهل هي نقابات للميسورين أم روابط للمساكين؟ النوادي الاجتماعية والرياضية لا تستوعب الأعداد الغفيرة من المواطنين بالصيف. فمن هم روادها؟ كل هذه الأسئلة وأكثر نضعها امام أعين المصابين ب "العمى الطبقي" و الذين يرفضون الاعتراف بوجود اكثر من طبقة في مصر و كل منهم تسعى لإحلال الاخرى في شكل تصاعد رأسي ، بل يكاد يكون هذا السعي من الشراسة بقدر يدفع لحياكة المؤامرات تجاه رموز الطبقة الأعلى او الساعية للإحلال بحيث يتم القضاء على استقرار طبقة بكاملها و هي المتربعة او احلام طبقة بكاملها هي الساعية . و دون غض النظر عن إيمان الأفراد – أو المجموعات – بشكل المتغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي أدّت لهذا النوع من "الإحلال الطبقي"، أليس من الأنسب الاعتراف بأن الذي تم هو تغيير – ولو كان جذرياً أو واسعاً – في طبيعة المنتسبين للطبقات وثقافتهم الفرعية وعاداتهم وقيمهم وسلوكياتهم؟ فتجد الآن بين الكتاب و مقدمي البرامج و محترفي الظهور السياسي من هو ضيفا دائماً على حفلات و موائد الطبقة البرجوازية العليا التي نشأت في عهد حكم حسني مبارك ، بالضيوف في حالة تطلع دؤوب ليكونوا جزء من اريستوقراطية جديدة توافرت لهم فيها أسباب الوضع السياسي المصري لتكون بمثابة درج الصعود ، اما اصحاب الدعوة فهم في حالة استيعاب للمتغيرات التي طرأت مما يدفعهم لاستيعاب الصاعدين الجدد حفاظا على مكتسبات العهد الأسبق الذي لم يبيد بعد نظرا لاستمرار وجوهه في المشهد العام بثبات ملحوظ لا يخلو هذا الاستيعاب سواء للمرحلة او للصاعدين من بعض لكزات تصفية الحساب القديم او قل حساب 2011 و التي كادت ان تعصف بهم . إن "الدور" الاجتماعي والاقتصادي الذي تؤديه الطبقات لهو أوسع بكثير من المفهوم الضيق للتأثير على توجيه السياسات العامة للدولة فالدور الحقيقي يكمن في قدرتها على توجيه شكل الانتاج و و حجم السوق و جودة المنتج و هذا لا ينسحب على المنتج الصناعي او الذراعي فحسب و إنما الخدمي و التعليمي و البحثي و التكنولوجي … الخ و هنا تجد أن اليد العليا هي في التنشئة الاجتماعية والضبط الاجتماعي غير الرسمي وتوريث الثقافة وتوجيه السلوك ، وأوضح دليل على ذلك هو حجم الأموال والجهود التي تبذل في سياق العمل التطوعي غير السياسي، أي التنموي والخيري والثقافي والتوعوي. من الذي يقوم بهذه الأنشطة؟ ومن ينفق تلك الأموال الطائلة؟ أستطيع أن أزعم – في ضوء تجربتي الشخصية وعملي التطوعي متعدد المجالات – أن الأثرياء لا يساهمون إلا بأقل القليل وأن الفقراء قد ألهاهم الاحتياج عن التطوع في غير ما اعتادوه من تكافل ضيق الحدود على مستواهم مع من هم أقل فقراً منهم، والغالبية العظمى من النشطاء والمتطوعين والمتبرعين هم ممن يندرجون تحت مسمى الطبقة الوسطى. يؤمن الكاتب ان مصر تمر بمرحلة صراع طبقي شديد الوطأة تظلم فيها طبقات من المجتمع هي المحرك الرئيسي لمقدرات هذا الوطن بل و هي التي تدفع به للأمام في ظل تتويه يقوم به أشباه المثقفون في هذا البلد سواء بسطحية التناول او انطباعية الطرح و يشاركهم فيه أهل الحكم الذين لا يعون حجم تضحيات الكتلة المتإرجحة فينجرفون لحالة اللا وعي احيانا و حالة الوعي الغائب احيانا اخرى عندما تكون الحلول أمامهم فينحونها جانبا على اعتبار اولوياتهم المزعومة بينما الاولى بالحكم صامتين . ينصح الكاتب نفسه و زملائه من كتاب و صناع رأي بالفصل بين المشاعر والانطباعات الذاتية وبين الكتابة الموضوعية، والتطلع إلى واقعية اجتماعية تصقل مهاراتنا في تفسير الماضي وفهم الحاضر وصنع المستقبل ومن جانب آخر فهو إعلان للتمرد على الكسل و الولولة و رفع الأكف بالدعاء للبحث عن إنقاذ إلهي لأحوال الأواسط من الناس. فإما ان نكون بين الناس و معهم او فلنلعن منهم للأبد و نتقبل مصير السقوط التاريخي .