فضيلة جديدة تضىء – وإن كان ضوءًا خافتًا – وسط حالة الظلام المؤقت التى خلفتها مؤخرًا أزمة انقطاع الكهرباء فى بلدنا، والتى هى فى الواقع ودون محاولة للتبرير أو «التطبيل» كما يحب أن يسميها البعض، هى أزمة ليست مصرية فريدة متفردة، بل هى أزمة تضرب معظم دول العالم، وإن لم يكن كل دول العالم حاليا – غير أنها فى بعضها ذات تأثير كبير وفى البعض الآخر غير مؤثرة بشكل واضح! وتأثيرها مؤقت. .. هذه الفضيلة التى أتحدث عنها هى فضيلة الاعتذار، الذى لم يكن معهودًا لدينا ولم يسجل التاريخ خلال السنوات الطويلة الممتدة، أن أقدمت حكومة تدير شئون البلاد على الاعتذار للشعب بسبب تعرضه لأزمة أو تعرض البلاد لمشكلة ذات تأثير واسع النطاق. لقد كنا نسمع ونتابع ما يفعله وزراء ومسئولو العالم المتحضر ونتحسر على حالنا ونعتصر شفاهنا من الحصرة، لأننا لا نقل عن هؤلاء الناس من سكان العالم المتقدم.. إلا أننا فى الأسبوع الماضى شاهدنا ولأول مرة مسئولا يقدم على الاعتذار، حيث أعلنت وزارتا الكهرباء والبترول عن اعتذارهما لجموع الشعب المصرى بسبب إجراءات تخفيف الأحمال نتيجة أزمة الكهرباء ونقص الوقود الأخيرة، ثم أتبع الدكتور مدبولى رئيس الحكومة هذا الاعتذار، باعتذار منه بصفته رئيس الوزراء للشعب، عن تكرار انقطاع الكهرباء، وهذا سلوك لم يكن معهودًا بالفعل لدينا فلم نسمع بالفعل عن حكومة اعتذرت أو حكومة قدمت استقالتها. هذا التصرف المسئول جاء فى ظني بدافع الحرص الشديد على تنفيذ توجيهات الرئيس السيسي للحكومة بأن تصارح الشعب وتضع الحقائق والمعلومات كلها أمامه، لأنه الشريك الأساسى والأهم فى هذا الوطن. وقد كان فعلاً أن اعتذرت الحكومة ولم تكتف بالاعتذار بل أعلنت تفاصيل الأزمة التى نواجهها، وأوضحت كافة أبعادها وتوابعها وأسبابها وقدمت بين يد الجميع الخطة العاجلة لمواجهتها والخطة طويلة الأمد لضمان عدم تكرارها.. وهذا وإن كان لا يطفئ كل لهيب الغضب الذى خلفته مشكلة انقطاع الكهرباء بسبب الظروف الطارئة التى نمر بها من حرارة عالية وامتحانات ثانوية عامة، وغيرها، ولكنه أسهم بشكل كبير فى تخفيف حالة الاحتقان ووضع الشعب بشكل أكبر أمام دوره فى تشارك المسئولية وتحمل واجبه الذى لا يقل أهمية عن المطالبة بحقوقه. .. وهنا مربط الفرس، ولجام الكلام وخلاصة القول.. المواطن المصرى ومعدنه الأصيل وحقيقته الألماظ التى تظهر أكثر وأكثر فى الشدائد والأزمات.. المواطن المصرى الجدع الذى لا يبخل بهذه الجدعنة على الغريب، فهل يبخل بها على بلده، أظن أن هذا من خامس المستحيلات الأربعة.. والتاريخ يحكى ويروى الكثير والكثير عن هذه الجدعنة والشهامة، وهو نفسه التاريخ الذى يعد لنا اليوم الذكرى الحادية عشر لثورة 30 يونيو المجيدة، ويحكى لنا عن هذه الثورة التى تجلى فيها معدن المصرى الأصيل وظهرت وأنارت الكون حقيقته «الألماظ». .. فى مثل هذا اليوم كان الخروج العظيم لجموع الشعب إلى الشوارع الميادين ليؤكد على حقيقته وهويته ويعلنها للجميع وبجماعات الظلام إنها ثابتة، لم ولن تتغير ولن يستطيع أحد أن يلونها أو يطمس بعضا من ملامحها. يعلن للجميع أن انتماء المصرى لوطنه فوق كل اعتبار وأن جنسيته التى يشرف بها كونه مصريا لا يضاهيها أى فخر فى الدنيا ولا يجدى ولا ينفع معها أى محاولة لتعلية انتماءات أو عقائديات أخرى تتمسح فى الدين وتحاول أن تجعل منه عباءة وستارة تخفى ما هو أشهر وأخطر وتحاول أن تعلى روابط عقائدية يظنون أنها قوية وهى والله أوهن من بيت العنكبوت. لقد كان خروج الشعب المصرى فى 30 يونيو محاولة مقدسة وشريفة لإنقاذ الوطن وتثبت هويته التى كادت تضرب فى مقتل وتخلل النخر إليها عبر سوس هذه الجماعات ونملها وكادت تقع مواجهات بين الأخ وأخيه والأب وإبنه وكادت تطيح هذه الرياح المسمومة بالأسرة الواحدة نواة وعماد المجتمع المصرى مصنع الهوية المصرية. ولكن شاءت الأقدار أن تغلب الهوية المصرية الثابتة بفضل أبنائها المخلصين، الذين أعلنوها بكل قوة ورسموا بأجسادهم فى الشوارع والميادين حروف اسمها بطريقة أذهلت العالم كله. هذا المواطن الذى خرج بهذه الروح فى 30 يونيو، هو المواطن الذى لن يتخلى عن وطنه مطلقا ولن يستجيب لأى محاولة خبيثة من أهل الشر، خاصة فى هذه الأيام، فهم يحاولون استغلال تعرض الوطن لأزمة طارئة ليحدثوا حالة من الغضب واليأس والضجر فى نفوس المصريين، لإسقاط الوطن أو إلحاق الضرر به، ولكن هيهات.. هيهات، فالمواطن الذى كشّر لهم عن أنيابه فى 30 يونيو، هو نفس هذا المواطن الذى سيرفض أن يستغلوه ويقودوه إلى طريق قد يكون فيه إلحاق ضرر بوطنه. المواطن المصرى كيس فطن، يغضب من بعض الأوضاع ويضيق من بعض المشكلات والأزمات وهذا طبيعى، ولكنه لا يثور ولا يخرب ولا يضر وطنه، ينتقد ويثمن له التحسن والتعافى نعم، ولكن لا يسعى إلى تخريبه وإسقاطه ولا يعطى فرصة لأحد أن يفعل ذلك. فرق كبير أن تعارض وتنتقد لغضبك من أزمة ما وتساهم وتساعد فى تقديم حلول لها.. وأن تستغل هذه الأزمة فى محاولة إسقاط بلدك أو إلحاق الضرر بوطنك. المصرى الذى كشفت 30 يونيو عن معدنه الحقيقى لا يفعل ذلك إطلاقا.. هو مواطن واعٍ يعلم كيف يمكن أن تتعرض الأوطان للأزمات ويتحمل معها حتى تتعافى ولا يفكر أبدا أن يكون معول هدم لحجر واحد فى وطنه.. فانتبهوا إن كانت مصر تتعرض لأزمة انقطاع كهرباء بسبب نقص الوقود والحر، فإنها وبأصالتها وشعبها ستظل منورة بأهلها المؤمنين بها والحريصين عليها. وطنى لو شغلت بالخلد عنه.. نازعتنى إليه فى الخلد نفسى