إن مصر القديمة أول من عرفت التنظيم والإدارة منذ 5000 سنة قبل الميلاد، وهو ما دلت عليه الشواهد والاكتشافات الأثرية، فوجود حكومة مركزية تمارس السيادة داخليًا وخارجيًا يعتبر وحده دليلاً دامغًا على معرفة مصر بالإدارة وممارستها منذ القدم. وإذا نظرنا إلى الجهاز الإدارى للدولة الآن سنجد تحديات تعترض مسيرته، أولها تضخم العمالة وسوء توزيعها وانخفاض إنتاجها وعدم رضا المواطنين عن الخدمات التى يقدمها، حيث يوجد 6.5 مليون درجة وظيفية ممولة بالجهاز الإدارى، فى حين يقدر إجمالى الدرجات المشغولة حاليًا ب 5.5 مليون موظف طبقًا لتقديرات الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة، نسبة ضخمة جدًا تعادل تقريبًا موظف لكل 15 مواطنًا فى حين يبلغ هذا المعدل فى ألمانيا موظف لكل 159 مواطنًا، وفى المغرب موظف لكل 88 مواطنًا. وأدى ذلك لارتفاع تكلفة العمالة فى القطاع الحكومى إلى 270 مليار جنيه فى موازنة العام الماضى، مع انخفاض موازنة التدريب، حيث بلغ نصيب الموظف 38.42 جنيه فى نفس الموازنة وهو مبلغ متدن للغاية. أيضًا من أبرز التحديات التى تواجه الجهاز الإدارى كثرة عدد التشريعات التى تحكمه وتقادمها وتضاربها، فيصل عددها إلى (53538) تشريعًا ما بين قوانين وقرارات ولوائح، جميعها سارية حتى يناير 2019، وتخلق فوضى التشريعات بابًا خلفيًا للفساد، أيضًا فإن المركزية الشديدة وسوء الخدمات المقدمة للمواطن وعدم رضاء المواطن عن نوعية وأسلوب تقديم الخدمة، وانتشار مظاهر الفساد، وسوء البنية التحتية التكنولوجية والمعلوماتية، كل هذا يصم أداء الجهاز الإدارى بالفشل، هذا الجهاز الضخم الذى يضم 2443 كيانًا حكوميًا، فى 33 وزارة و14 مصلحة و217 هيئة و27 محافظة و188 مركزًا و226 مدينة و91 حيًا و1325 قرية، بالإضافة إلى 25 جهاز مدينة. وتسعى الحكومة لتنفيذ خطة إصلاح للجهاز الإدارى للدولة خلال فترة تتراوح بين 7 و8 سنوات. وقد وضعت استراتيجية التنمية المستدامة رؤية مصر 2030 تصورًا أشمل للإصلاح الإدارى بالمحور الرابع بعنوان «الشفافية وكفاءة المؤسسات الحكومية»، ولتحقيق هذه الرؤية يجب إعادة النظر فى الحجم الأمثل للحكومة، وهى حاليًا 33 وزارة، فى حين فى أمريكا 15 وزارة، والمتوسط فى دول الاتحاد الأوروبى 22 وزارة، كما يجب إعادة النظر فى الهيئات العامة وعددها 217 ومراجعة أدوارها وصولاً إلى إلغاء أو دمج أو تعديل بعضها فى ضوء المتغيرات الحالية. وهناك ضرورة لفتح المجال للقطاع الخاص لتقديم الخدمات الحكومية، وتتحول الحكومة إلى منظم للخدمة وليس مقدم خدمة، أيضا الاهتمام بالعنصر البشرى وتحويل إدارات شئون العاملين إلى إدارات موارد بشرية. وقد سعت وزارة التخطيط خلال العامين الماضيين إلى صياغة خطة للإصلاح الإدارى تشمل جميع أركان الإصلاح المطلوب، بداية من الإصلاح التشريعى بصياغة قوانين ولوائح تهدف إلى تنظيم العمل مثل قانون الخدمة المدنية الذى وضع قاعدة تشريعية نظّمت عملية تعيين الموظفين الجدد بالحكومة من خلال معايير وضوابط معينة لا علاقة لها سوى بالكفاءة، ومدونة السلوك الوظيفى، علاوة على تحديث بيانات العاملين بالجهاز الإدارى وتقييمهم وبناء قدراتهم وتحفيزهم، فالموظف العام هو صلب عملية الإصلاح. واشتملت خطة الإصلاح على محور التطوير المؤسسى من خلال استحداث وحدات إدارية جديدة مثل وحدة الموارد البشرية والمراجعة الداخلية والتدقيق والتقييم والمتابعة وغيرها، ومن المعروف أن عملية الإصلاح الإدارى عملية طويلة المدى ومستمرة، ونجاحها ليس مسئولية وزارة أو جهة واحدة، بل هى مسئولية مجتمعية تأتى نتاج تنفيذ خطة عمل تشارك فيها جميع الجهات مع القطاع الخاص والمجتمع المدنى. ويتطلب الإصلاح حزمة حاكمة من القوانين واللوائح تستند إلى متابعة جهود العاملين بالجهاز الإدارى للدولة، كما أن التحول الرقمى يحتل مكانة مهمة فى عملية الإصلاح، سواء من خلال ربط الجهات ببعضها تسهيلاً لتكامل قواعد البيانات، أو من خلال ميكنة الخدمات الحكومية لتقديم خدمة ذات جودة وفى وقت قياسى للمواطن. إن تطوير وإصلاح الجهاز الإدارى للدولة له أهمية كبرى باعتباره جزءًا أساسيًا من استراتيجية وطنية شاملة لتحديث مصر وتحويلها إلى مجتمع معرفة، وهذا الإصلاح يحتاج لمتابعة مستمرة من القيادة السياسية والأجهزة الرقابية والبرلمان فى كل مراحل التنفيذ، وأن يتم توفير التمويل اللازم لتنفيذه، خاصة أن المواطن قد عانى كثيرًا من البيروقراطية والروتين وفوت علينا بكره، وصولاً إلى «السيستم واقع»، وإلى الرشوة الإجبارية لقضاء مصلحته.. هذا المواطن الذى عانى كثيرًا آن له أن يحصل على الخدمة بصورة آدمية خالية من العذاب.