حالة من الاهتمام الشديد حظيت بها الانتخابات المحلية التركية التي جرت الأسبوع الماضي سواء في الداخل أو الخارج، ففي الداخل اعتبرها أردوغان مصيرية بالنسبة لتركيا، وتتمحور حول بقاء حزبه والدولة التي يسيطر عليها منذ نحو 16 عامًا تقريبًا، ولهذا شارك بقوة في الحملات الانتخابية لمرشحي حزبه، وعقد أكثر من مئة مهرجان انتخابى خلال 50 يومًا، وفي الخارج، برز الاهتمام والمتابعة من كافة وسائل الإعلام العالمية التي رأت في هذه الانتخابات مؤشرًا حقيقيًا على شعبية الرئيس التركي، خاصة أنها تأتي في توقيت بالغ الأهمية، في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية بشكل غير مسبوق، والذي يشمل تضخما قياسيا وبطالة متزايدة. ووسط حالة من الجدل، والاستقطاب، والاتهامات المتزايدة، أجريت الانتخابات يوم الأحد الماضى، وشهدت مشاركة كبيرة من الناخبين، وأسفرت عن مفاجآت وُصفت بالمدوية، كان أبرزها خسارة حزب أردوغان «العدالة والتنمية» المدن الكبرى، ففى أنقرة خسر حزب العدالة والتنمية السيطرة على العاصمة للمرة الأولى منذ تأسيس الحزب عام 2001، أما إسطنبول التى تعد القلب الديموجرافى والاقتصادى للبلاد، وتبلغ مساحتها ثلاثة أمثال العاصمة، واستهل فيها أردوغان مسيرته السياسية، وكان رئيسًا لبلديتها فى التسعينات، فقد خسرها الحزب أيضًا بعد معركة عنيفة مع مرشح المعارضة، ففى البداية أعلن كل من مرشح الحزب الحاكم ومرشح المعارضة فوزهما، قبل أن يُعلن بشكل نهائى عن فوز مرشح المعارضة إكرام إمام أوغلو، كما خسر الحزب الحاكم عدة مدن هامة من بينها إزمير. ماذا يحدث فى تركيا؟ وما الأسباب التى أدت إلى هزيمة أردوغان وحزبه فى المدن الكبرى؟ كان هذا السؤال الرئيسى الذى حاولت الصحف العالمية الإجابة عنه طوال الأيام الماضية، حيث اتفقت أن الوضع الاقتصادى السيئ أحد أبرز أسباب خسارة أردوغان، إلى جانب أسباب أخرى تتعلق بالحريات والتضييق على المعارضين، كما وضعت الصحف سيناريوهات عدة لمستقبل الحزب وأردوغان بعد هذه النتائج. فى هذا السياق، نشر موقع «دويتشه فيله» الألمانى تقريرًا بشأن الانتخابات، ذكر فيه أن هزيمة حزب أردوغان فى المدن الكبرى تعود لعدة أسباب أبرزها بالطبع التراجع الاقتصادى الذى أثر بشدة على الناخبين، وأضاف التقرير: «شهدت تركيا فى عهد أردوغان، عندما كان رئيسًا للوزراء فى عام 2002، نهوضًا اقتصاديًا كبيرًا، تمكن خلاله الكثير من فقراء المدن الكبيرة من الصعود اقتصاديًا إلى الطبقة الوسطى فى المجتمع، وبرزت مظاهر الرفاهية فى كل المدن التركية، خصوصا فى أكبرها مثل إسطنبولوأنقرة وأزمير وغيرها، وهو أمر ضمن الفوز لأردوغان وحزبه فى كل الانتخابات الأخيرة، لكن البلاد تشهد ومنذ عدة سنوات، خصوصا بعد الانقلاب العسكرى الفاشل، والانتقال إلى النظام الرئاسى، إلى جانب تراجع الديمقراطية ودولة القانون، إثر الإجراءات التعسفية بحق المعارضين لأردوغان وحزبه، تشهد البلاد ركودًا اقتصاديًا يصاحبه تراجع حاد فى سعر الليرة التركية مقابل العملات الأجنبية، مثل الدولار واليورو، لم تشهده تركيا من قبل». ورأت «دويتشه فيله» أن هاجس الخوف من السقوط مجددًا فى الفقر والعوز وفقدان فرص العمل يثير قلق الناخب التركى بشكل كبير، كما أن الثقة بقدرة أردوغان وحزبه بتجاوز الحالة الاقتصادية الحالية والدفع بالاقتصاد نحو نمو مستديم، بدأ بالاضمحلال تدريجيًا، إثر الصراع السياسى بين أردوغان والأوروبيين وبينه وبين الولاياتالمتحدة تارة أخرى. واختتمت «دويتشه فيله» تقريرها بالقول «إلى جانب تعثر الاقتصاد التركى وتراجع قيمة الليرة التركية بشكل حاد، تتحدث المعارضة التركية عن تراجع الديمقراطية معتبرة الانتخابات الأخيرة بمثابة معركة كبيرة من أجل استرجاع الحريات العامة للمواطنين التى سلبها أردوغان ونظامه». ومن «دويتشه فيله» إلى صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية التى وصفت نتيجة الانتخابات ب «نكسة» كبيرة للرئيس أردوغان، بعد أن شارك فى حملته الانتخابية بلا هوادة لصالح مرشحى حزبه، قبل أن يُواجه برد فعل عنيف من قبل الناخبين، ووصفت الصحيفة الأمريكية الانتخابات المحلية فى تركيا بأنها أول استفتاء حقيقى يُجرى على مستوى البلاد بشأن قيادة أردوغان لتركيا منذ فوزه فى الانتخابات الرئاسية فى يونيو الماضى، فمنذ ذلك الحين، دخل الاقتصاد التركى فى ركود لأول مرة منذ عقد ما أجبر الحكومة على الدفاع عن سياسات أزعجت المستثمرين وتسببت فى ارتفاع الأسعار، وأضافت الصحيفة: «إن القمع الذى مارسته الحكومة ضد خصومها بعد الانقلاب الفاشل فى عام 2016 زاد من مخاوف الشعب التركى وأزعج أيضا علاقات تركيا مع الحلفاء الغربيين، ما تسبب فى تقلبات حادة فى صرف الليرة التركية ووضع مستقبل المستثمرين فى تركيا على المحك». من جانبها، اتفقت جميع الصحف البريطانية تقريبًا على أن ما حدث فى الانتخابات المحلية التركية يُصنف فى إطار عقاب الناخبين لأردوغان، كما وصفت نتيجة الانتخابات بهزيمة كبيرة وخسارة مدوية للرئيس والحزب الحاكم، فأشارت صحيفة «التايمز» إلى معاقبة الناخبين لأردوغان فى الانتخابات المحلية، والتى وصفتها بالاختبار الحاسم لشعبية أردوغان، وقالت «التايمز» إن أردوغان عانى من انتكاسة انتخابية نادرة بعد فقدانه المدن الكبرى فى انتخابات محلية تعتبر اختبارًا لشعبيته خلال أزمة اقتصادية. لم تختلف صحيفة «فاينانشيال تايمز» كثيرًا، فذكرت أنه على الرغم من استخدام أردوغان نبرة مطمئنة أثناء مخاطبة أنصاره من شرفة مقر حزبه، ولكنه كان يعى جيدًا أنه عانى واحدة من أصعب نتائج الانتخابات خلال فترة حكمه التى بدأت قبل 16 عامًا، وأضافت الصحيفة أنه على الرغم من عدم كونه مرشحًا فى الانتخابات، قاد أردوغان حملة للسيطرة على 81 مدينة تركية، كما لو كانت انتخابات عامة، ورأت الصحيفة أن الرئيس التركى قاتل بشدة للفوز بالانتخابات البلدية، لأنه يعلم من التجربة الشخصية أن الفوز على المستوى المحلى يمكن أن يكون له «تأثير الدومينو»، وأشارت «فاينانشيال تايمز» إلى فوز أردوغان برئاسة بلدية إسطنبول فى عام 1994، ثم اجتياح حزب العدالة والتنمية السلطة بعد ثمانى سنوات.