يبدو المشهد فى سوريا غامضا ومرتبكا.. قوات التحالف الدولى بقيادة الولاياتالمتحدة تمثل بالطبع الجزء الرئيسى من المشهد.. ثم هناك الجماعات الإرهابية المختلفة داعش وجبهة النصرة وتنظيم أحرار الشام وغيرها بالإضافة طبعا لقوات الجيش السورى الموالية للرئيس بشار وقوات المعارضة التى تسعى لإسقاطه. وفجأة فرضت روسيا نفسها بقوة على المشهد وأصبحت تمثل جزءًا أساسيًا من مكونات الصراع فى سوريا.. وأصبح من الصعب التنبؤ بمستقبل هذا الصراع. لماذا تدخلت روسيا؟.. وما الذى سيترتب على تدخلها؟.. وهل يحسم تدخلها هذا الصراع أم يزيده تعقيدًا؟.. وتساؤلات أخرى كثيرة تفرض نفسها بمنتهى الإلحاح! روسيا بالطبع لم تتخل عن تأييد الرئيس بشار سياسيا منذ تفجير الصراع فى سوريا.. لكنها المرة الأولى التى تتدخل عسكريا.. وقد أعلنت روسيا أن تدخلها يهدف إلى ضرب الجماعات الإرهابية فى سوريا بما فيها تنظيم داعش.. الولاياتالمتحدة حاولت فى البداية تصوير الأمر على أنه خطوة روسية فى اتجاه الانضمام لقوات التحالف الدولى التى تحارب داعش لكنها فوجئت بأن روسيا تعزف منفردة تماما! وبدون سابق إنذار راحت الولاياتالمتحدة وحلفاؤها يوجهون انتقادات حادة وهجوما شرسا لروسيا أعاد لذاكرة العالم أجواء الحرب الباردة! الرئيس أوباما قال إن الضربات الجوية التى تقوم بها روسيا فى سوريا ستبعد سوريا عن الحل السياسى وأنها ستجعل من سوريا مستنقعا تغرق فيه روسيا! وزادت حدة انتقادات الرئيس الأمريكى فقال إن سياسة روسيا الفاشلة ستؤدى إلى تجنيد مزيد من المقاتلين الأجانب فى صفوف داعش.. وأن كل ما تفعله روسيا هو إضعاف المعارضة المعتدلة فى سوريا وتقوية داعش! ووصف ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا الضربات الجوية الروسية فى سوريا بأنها خطأ فظيع وقال إن هذه الضربات تم تنفيذها فى مناطق لا تقع تحت سيطرة داعش.. وراح كاميرون بعد ذلك يشكك صراحة فى أهداف الضربات الجوية الروسية فقال إنها لا تستهدف داعش وإنما تستهدف الجماعات المعارضة لنظام بشار وأن مساندة روسيا له ستؤدى إلى عدم استقرار المنطقة. وذهب وزير الدفاع البريطانى مايكل فالون إلى ما هو أبعد من ذلك فقال إن روسيا تستهدف قتل المدنيين فى سوريا. وأصدرت قوات التحالف الدولى بيانًا شديد اللهجة قالت فيه إن الضربات الجوية الروسية تمثل تصعيدًا إضافيًا وتغذية للتطرف. وراح الرئيس الفرنسى فرانسوا أولاند يردد نفس نغمة التشكيك فى نوايا روسيا فقال ساخرًا: أتمنى أن يكون هدف الضربات الجوية التى تشنها روسيا المناطق التى تسيطر عليها داعش وليس المناطق الأخرى! وراحت روسيا ترد بقوة دون أن تتوقف لحظة عن عملياتها العسكرية! *** ماذا نفعل أكثر من الذى تفعله الولاياتالمتحدة؟! كان هذا هو المنطق الذى استخدمه الرئيس الروسى بوتين فى الرد على انتقادات الولاياتالمتحدة وحلفائها. الرئيس بوتين فى الحقيقة مضى خطوة أبعد واتهم الولاياتالمتحدة بتهديد أمن روسيا القومى فقال: إن أمريكا تساعد داعش وليس صحيحا أنها تسعى لتدميره.. وأن هدفها تقوية هذا التنظيم المتطرف لكى يهدد فيما بعد روسيا! وراح الرئيس الروسى يستعرض النتائج المترتبة على الضربات التى وجهتها الطائرات الروسية لتنظيم داعش والتنظيمات الإرهابية الأخرى.. وجاءت الحصيلة مثيرة للدهشة فخلال أيام قليلة جدًا نجحت الضربات الجوية الروسية فى تعطيل هيكل القيادة وخطوط إمداد التنظيم الإرهابى.. وتم تدمير البنية التحتية المستخدمة فى الإعداد للأعمال الإرهابية.. بالإضافة إلى تدمير معسكر للتدريب ومصنع لإعداد الأحزمة الناسفة. وأكدت مصادر إعلامية أن مقاتلى داعش انتابتهم حالة من الذعر والفزع وأن أكثر من 600 مقاتل منهم حاولوا الهرب إلى أوروبا. ويفرض السؤال نفسه بقوة: لماذا نجحت الطائرات الروسية فى توجيه ضربات مدمرة لتنظيم داعش خلال أيام قليلة بينما لم تتمكن الطائرات الأمريكية وطائرات التحالف الدولى من توجيه ضربات مؤثرة للتنظيم على مدى عام كامل قامت خلاله طائرات التحالف بشن 7 آلاف غارة؟!.. أليس معنى ذلك أن أمريكا لها أهدافا أخرى؟! *** أشارت بعض الصحف الأمريكية إلى معلومات خطيرة عن الغارات التى تشنها الطائرات الأمريكية على قوات داعش وقالت إن الطائرات الأمريكية تعود إلى قواعدها بعد الطلعات الجوية التى تقوم بها وهى محملة بحوالى 80% من حمولتها من القنابل.. أى أنها لا تستخدم إلا أعدادًا محدودة من قنابلها فى الغارات التى تشنها على تنظيم داعش. وليس لهذا إلا معنى واحد.. أن الولاياتالمتحدة - والتى سبق أن أعلنت أن هزيمة داعش تحتاج فترة زمنية تتراوح ما بين ثلاث إلى أربع سنوات.. ليس هدفها ضرب داعش ولا حتى إسقاط الرئيس بشار إنما هدفها الحقيقى هو إسقاط سوريا وتمزيقها وتقسيمها! ومن المؤكد أن التدخل العسكرى الروسى فى سوريا ستكون له آثاره الواضحة على الجماعات الإرهابية.. داعش وأخواتها.. ومن المؤكد أن أمريكا ستضطر لتغيير خططها فليس منطقيا أن تستمر «تمثيلية» ضرب داعش بينما العالم كله يرى ما تفعله الطائرات الروسية مع الجماعات الإرهابية! ولابد أن ذلك كله سيقود الصراع الدائر فى سوريا إلى اتجاه الحل السياسى. ليس هناك احتمال آخر.. فإما أن توافق أمريكا على الحل السياسى بين كل أطراف الصراع فى سوريا بما فى ذلك الرئيس بشار وإما صدام عسكرى بين أمريكاوروسيا.. وهو بالطبع آخر ما تفكر فيه أمريكا وآخر ما تتمناه. **** يمكن أن نقول إن التدخل الروسى فى سوريا يزيد من احتمالات التوصل إلى حل سياسى وليس العكس كما تزعم أمريكا وحلفاؤها.. ويمكن أن نقول أيضًا إن ما يحدث فى سوريا ومن قبله ما يحدث فى أوكرانيا مؤشر قوى على أن عصر القطب الواحد بدأ فى الانحسار!