الناس مشغولة ببكرة.. وعندها حق، ومن ثم كثيرا ما يتردد السؤال «ماذا بعد»؟.. فقد تحقق قدر ملموس من الاستقرار السياسى والأمنى وتم إقرار الدستور وانتخاب الرئيس ويجرى الآن التحضير للانتخابات البرلمانية، كما بدأت عجلة الاقتصاد القومى فى إعادة الدوران من جديد، ولكن ماذا عن ملفات الإصلاح وجهود التنمية؟.. وكيف تتحقق العدالة الاجتماعية بين كافة أبناء الوطن وأيا كان محل إقامتهم أو طبيعة عملهم؟. وإذا كان «التعليم» مازال هو الطريق المشروع للحراك الاجتماعى.. فكيف ننهض به؟. وماذا عن دور الإعلام القومى فى تلك المرحلة.. خاصة أنه يعانى حاليا من حالة «سيولة» مفرطة، ومعارك وهمية لا يملك المجتمع ترف الانشغال بها فى الوقت الحالى. كل هذه التساؤلات وغيرها كان دافعا ومحفزا لنخبة مختارة من المتخصصين والخبراء والإعلاميين للتوقف والبحث فى محاولة للإجابة عنها، من خلال ندوة خاصة نظمها منتدى البحوث الاقتصادية بالتعاون مع شعبة المحررين الاقتصاديين، عقدت بأحد فنادق منطقة العين السخنة واستغرقت ثلاثة أيام متواصلة. وقد حاول المشاركون فى أولى جلساتها استشراف المستقبل من خلال سيناريوهات محتملة لمسار البلاد بعد ثورتى 25 يناير و30 يونيو، فأوضح الكاتب المعروف د. أسامة الغزالى حرب رئيس مجلس الأمناء لحزب المصريين الأحرار، أن هناك ثلاثة سيناريوهات: أحدها رجعى.. سلبى.. أى العودة إلى ما كنا عليه قبل 30 يونيو، وهو مستبعد، والثانى: ثورى يؤدى إلى تغيير جذرى فى المجتمع وهو ما لا يتوقع حدوثه فى الوقت الحالى، أما الثالث: فهو استمرار الوضع القائم.. مع إصلاحات اقتصادية وسياسية متوالية. ولم يختلف الحضور كثيرا مع هذا التحليل، فالدولة المصرية مازالت قوية ومتماسكة، كما أن المصريين راغبون فى الاستقرار.. ويفضلون الإصلاح التدريجى خاصة أنهم عانوا من «فوضى عارمة» بعد ثورة 25 يناير كادت أن تحرق الأخضر واليابس.. لولا رحمة ربنا. والمعنى أنه لابد من تسريع عجلة النمو الاقتصادى، ولكن السؤال الملح بأى توجه وبأى نموذج تنموى؟.. فقد ركزت مصر فى عهد الرئيس عبد الناصر على العدالة الاجتماعية، بينما اتسم عهدا السادات ومبارك بالتركيز على النمو الاقتصادى، وبالطبع لم يعد لدينا ترف الاعتماد على أى منهما منفردا، وإنما لابد من البحث عن نموذج جديد يحقق النمو والتنمية والعدالة الاجتماعية فى آن واحد، وهل يمكن تحقيق هذا الهدف (المجمع) من خلال التركيز على المشروعات الكبرى أم من خلال إصلاح السياسات الاقتصادية والاجتماعية والمؤسسية، أى خلق «بيئة» صديقة للاستثمار، أم كليهما معا؟! وبالطبع اجتهد المشاركون فى الإجابة عما سبق، فقد أكدت د.عبلة عبد اللطيف على ضرورة اتباع الأسلوبين معا، أى إصلاح مؤسسى مع ترتيب الأولويات، بينما أشار طارق توفيق نائب رئيس اتحاد الصناعات إلى أهمية دور الدولة فى البنية التحتية وإصلاح النظام البيروقراطى المعقد ومكافحة منظومة الفساد، فضلا عن فتح مجالات للاستثمار فى قطاعات معطلة بدون مبرر، أما د. فرج عبد الفتاح نائب رئيس حزب التجمع أشار إلى ضرورة البدء بالسياسات (اقتصادية- تشغيل- مالية.. إلخ) ثم تحقيق التوازن الكلى فى الاقتصاد من خلال قطاعاته المختلفة، مع الاهتمام بالقطاع غير الرسمى فى المجتمع، والذى يمثل حوالى 80% من قوى العمل. ??? وهذا التوجه الاقتصادى أو النموذج التنموى الأفضل لمصر.. هل يحدده الرئيس أو مجلس الوزراء أم المجتمع بكافة مؤسساته؟.. وإذا كنا على وشك إجراء انتخابات برلمانية.. فماذا عن دور البرلمان الجديد؟.. وكيف يكون قادرا على القيام بدوره التشريعى والرقابى على أحسن وجه؟.. وهل الأحزاب الحالية (90 حزبا) التى تتسم بضعف كوادرها وغياب برامجها يمكن أن يساعد على تحقيق هذا الهدف! وكانت المفاجأة فى إجماع المشاركين فى الجلسة- مع اختلاف انتماءتهم السياسية- أن الأوضاع ليست «وردية» كما يعتقد البعض، وكانت البداية من د. أحمد البرعى وزير القوى العاملة الأسبق الذى أكد عدم وجود قواعد شعبية للأحزاب الحالية، وهناك انقسامات حادة بين التيارات السياسية، ولدينا مشكلة فى تشكيل الدوائر وكذلك القوائم الانتخابية المغلقة، ثم اتفق معه د. عمرو الشوبكى النائب البرلمانى السابق خاصة فيما يتعلق بمسالب قانون الانتخابات، وأن بيئة الانتخابات معادية للسياسة، فضلا عن «هشاشة» التحالفات الانتخابية، بينما ركز أشرف ثابت وكيل مجلس الشعب السابق والقيادى فى حزب النور على أهمية توازن البرلمان وكفاءته واستقراره، مشيرا إلى أهمية الإشراف القضائى وخلق بيئة صديقة لإجراء الانتخابات. ??? هذا.. بينما يفاجئنا د. محمود أبو النصر وزير التعليم بتفاؤله رافعا شعار «معا نستطيع» وأنه يحاول حاليا تقريب المسافة وتقليل الكثافة، موضحا أن لديه حاليا حوالى 50 ألف مدرسة تستوعب حوالى 8.5 مليون طالب فى المراحل التعليمية المختلفة، ولكن المشكلة أن بعض الفصول بها كثافة تفوق الحد.. حيث تضم 80 طالبا، ولذلك يحتاج إلى10 آلاف مدرسة جديدة لتقل كثافة الفصول إلى 45 طالبا.. وهو يحاول مواجهة هذا العجز مؤقتا من خلال المدارس ذات الفصل الواحد، مشيرا إلى بعض الحقائق الصادمة مثل وجود 2 مليون متسرب من التعليم وأن بعض طلاب المدارس الفنية الثانوية لا يستطيعون القراءة بالتشكيل! وأن هناك العديد من طلاب المرحلة الإعدادية لا يستطيعون القراءة ولا الكتابة، وللأسف لم يكن وقت الجلسة كافيا ليقوم الوزير بشرح مبادراته وخططه للنهوض بالتعليم من خلال السياسة التعليمية الجديدة والتى طالبه الجميع بضرورة عرضها للنقاش العام فى المجتمع، حتى يخلق حالة من التوافق عليها، والاهتمام بها، تمهيدا لتوافر الدعم المجتمعى المطلوب، فلا توجد أسرة أو بيت فى مصر إلا ولديها واحد أو اثنين فى المراحل التعليمية المختلفة، كما أن التعليم ليس مهنة أو خبرة تكتسب، وإنما هو هدف وضرورة فى حد ذاته باعتباره المصدر الأساسى لتحقيق ما يسمى بالتنمية البشرية التى هى أساس للنهضة فى أى مجتمع، كما أنه مازال الطريق المشروع للحراك الاجتماعى وانتقال الطبقات الدنيا إلى الدرجات الأعلى، بل إنه مصدر «تكافؤ الفرص» وهى إحدى ركائز العدالة الاجتماعية المطلوبة، فلا يمكن ولا يجوز بعد ثورتين شعبيتين فى مصر أن يظل 40% من المواطنين تحت خط الفقر، وأن ينتشر مبدأ التوريث فى بعض المهن أو الوظائف ذات العائد الأدبى والمادى المرتفع، ناهيك عن الإحساس بما يسمى «بفقر القدرات» وقلة الحيلة وظلم الإنسان لأخيه الإنسان فى مجتمع شرقى يجب أن يقوم على التكافل محققا السلام الاجتماعى بين جميع أبنائه. ??? ثم كان حسن الختام مع جلسة الإعلام فى بيئة متغيرة والتى تحدث فيها نقيب النقباء مكرم محمد أحمد، والإعلامى اللامع حافظ المرازى، والخبير المعروف فى مجال إصدار الصحف هشام قاسم، وقد تساءل المتحدثون ماذا يفعل 43 ألف موظفا فى ماسبيرو منهم 6 آلاف فى الأمن وحده؟! ولماذا غابت الإدارة الصحفية المحترفة والتى كان من نتائجها تكبد المؤسسات العامة والخاصة خسائر باهظة، ولماذا عمليات السيطرة والاحتكار فى بعض المواقع، ومن الذى يعين القيادات الصحفية والإعلامية؟ واتفق الجميع على ضرورة تعديل كافة التشريعات المنظمة للعمل الإعلامى.. مع أهمية اختيار الأفضل والأكفأ للمناصب القيادية فى الإعلام. وإجمالا.. فقد كانت «الندوة» محاولة جادة للتفكير والبحث فى مشكلات المجتمع والاجتهاد فى البحث عن حلول عملية لها ولا أملك غير الشكر لمن بادر باقتراح عقدها وحرص على متابعة حسن التنظيم وهو د. أحمد جلال رئيس منتدى البحوث الاقتصادية وزير المالية السابق والخبير الاقتصادى المعروف، كما أن الشكر موصول لمن أداروا جلساتها ومنهم أستاذنا مكرم محمد أحمد ود. زياد بهاء الدين، والسفيرة مشيرة خطاب والزملاء مصباح قطب ورشا نبيل، وكذلك من تفضلوا بالحضور والمشاركة فى الحوار ومنهم د.محمد أبو الغار ود. عماد أبو غازى، والأستاذة منى ذو الفقار ود.هانيا شلقامى ود. ماجد عثمان والمخرج خالد يوسف والمهندس ممدوح حمزة، والوزير السابق كمال أبو عيطة، أما زملائى وأصدقائى أعضاء شبعة المحررين الاقتصاديين فقد كانوا قمة فى الانضباط وفاعلية فى المناقشة والحوار والتعقيب.