لم يعد الأمر مجرد تكهنات، فالأسلحة الروسية الحديثة قادمة فى الطريق بعد أن وقّعت القاهرة وموسكو اتفاقا مبدئيا لشراء أنظمة عسكرية حديثة فى مجالات الدفاع الجوى والطائرات والمدفعية وصواريخ كورنيت المضادة للدبابات وأنظمة رادار ومراقبة.. فكرة لجوء مصر إلى الأسلحة الروسية كانت مجالا للهمس والقيل والقال منذ ستة أشهر على الأقل ولكنها الآن أصبحت قرارا متفقا عليه بين البلدين. وفى تفاعلات العلاقات الدولية هناك مجالان يعكسان عمق العلاقة بين طرفين، وهما إمدادات الأسلحة والمشاركة فى حرب ضد عدو مشترك، ويأتى بعدهما أشكال ومجالات أخرى للتعاون الاقتصادى والثقافى والصناعى والتجارى والطلابى والسياحى وهكذا. وعادة ما ينظر للتعاون العسكرى باعتباره تعاونا استراتيجيا بعيد المدى، فضلا عن أنه يؤثر مباشرة فى حالة توازن القوى فى الإقليم، والأمران معا يؤديان إلى تغيير المعادلات والتفاعلات بين الفاعلين المختلفين فى منطقة أو إقليم بعينه. ولعلنا نتذكر كيف أدت صفقة السلاح الروسية عبر تشيكوسلوفاكيا فى النصف الثانى من الخمسينيات فى القرن الماضى إلى بدء مرحلة جديدة من توازن القوى فى الشرق الأوسط إجمالا، وبين مصر وإسرائيل على وجه التحديد، كما أنها أتاحت فرصة كبيرة للاتحاد السوفيتى آنذاك إبان انخراطه فى الحرب الباردة مع الغرب بقيادة الولاياتالمتحدة للدخول إلى الشرق الأوسط وإلى العديد من البلدان العربية، وبما أفشل سياسة الاحتواء التى كانت تتبعها الولاياتالمتحدة لمحاصرة الاتحاد السوفيتى آنذاك. ورغم أن التاريخ لا يعيد نفسه من حيث التفاصيل، لكننا قد نجد فى هذه الحالة الكثير من التشابه فى الاتجاه العام مع حالة صفقة الأسلحة الروسية الجديدة والتى من شأنها أن تدلل على حقيقتين، الأولى أن مصر قادرة على الخروج من الضغوط الأمريكيةوالغربية بحكم ثقلها ومكانتها وإمكاناتها المعنوية، والثانية أن هذا الخروج المصرى من عباءة الضغوط الأمريكية هو خروج محسوب لا يؤدى إلى قطيعة بل إلى إعادة هيكلة العلاقات الثنائية على نحو أكثر ندية واستقلالية، وبما يجعل مصر متحررة من كثير من ألاعيب واشنطن الظاهرة أو الخفية. ولعل هاتين الحقيقتين تقودان بدورهما إلى حقيقة ثالثة ولكنها تخص الإقليم العربى والشرق أوسطى ككل، حيث التحولات الكبرى تخط لنفسها أخاديد وطرقا وقنوات تجرى جميعها فى اتجاهات متعارضة إلى الحد الذى يصبح معه استشراف التوجه العام للإقليم شيئا من الصعوبة بمكان. ولدينا الآن ثلاثة توجهات رئيسية، أولها التوجه الذى تمثله المنظمات الإسلامية العنيفة والمتطرفة والإرهابية وأيا كان اسمها كداعش والنصرة والإخوان وبيت المقدس والقاعدة وأجناد الإسلام وجند محمد وغيرهما، إذ تمثل قوة تغيير كبرى لهوية الإقليم وتضرب فى العمق فكرة الدولة الوطنية التى استقر عليها الإقليم منذ عشرينيات القرن الماضى، ومهما كانت الخلافات الفرعية فيما بينها فهى من فصيل فكرى واحد يستند إلى رؤية تكفر الآخر ولا تعتد بالقوانين والمسلمات التى تحكم العلاقات بين الدول، وتنكر الأعراف والقوانين التى تنظم تفاعلات كل مجتمع على حدة، وتسعى إلى مهاجمة الآخر أيا كان فى صورة دولة أو حكومة أو منظمة دولية، ولديها ثقة شديدة فى النفس بأنها تحمل العقيدة الصحيحة والمؤيَدة من السموات العُلا، وأنها فى حالة جهاد دائم إلى يوم الدين حتى تنتصر على كل الأعداء وتقيم دولة الحق فى صورة دولة الخلافة التى تطبق الشرع الصحيح من وجهة نظرها. مصر قادرة على الخروج من الضغوط الأمريكيةوالغربية بحكم ثقلها ومكانتها وإمكاناتها المعنوية وعلينا أن نعترف بأن هذه المبادئ حين تقال مجردة فإنها كفيلة بجذب العديد من الأنصار الذين يغمرهم شعور بالقهر والحرمان وقلة الحيلة، خاصة محدودى العلم والثقافة، فضلا عن الجهل بحقيقة الإسلام ودعوة محمد (y). كذلك فإن الصورة النمطية التى نجحت هذه التنظيمات فى رسمها عن نفسها وعن أعضائها، والقائمة على الحق فى مواجهة الباطل، وأن العضو فى التنظيم منصور فى الدنيا لما يتوفر له من قوة السلاح، ومأجور بالجنة فى الآخرة، تعد هى الأخرى عنصر جذب شديد لاسيما للشباب الذى يرى نفسه ضائعا، وأن انضمامه لهذا التنظيم أو ذاك يحوله إلى شخص قوى ومرهوب الجانب من الجميع. مثل هذه الصورة الجاذبة لفئات من المستضعفين يتطلب تعريتها وفضحها وكشف عوارها جهدا فكريا وثقافيا وتربويا واقتصاديا لا حدود له، شريطة التناغم فى الأداء وفى الهدف. ولكى تحقق هذه الجهود أهدافها فى تعرية التنظيمات المتطرفة والإرهابية، ثمة حاجة إلى استراتيجية بعيدة المدى تجفف المنابع الفكرية، وتشرف عليها جهات مسئولة فى الداخل وفى الخارج، بحيث تقيم سياجا من الفكر والعلم والإيمان الصحيح لدى الأجيال الجديدة يحول دون وقوعهم فى براثن التطرف والإرهاب. إذًا، قوة التغيير بالتطرف والعنف بحاجة إلى قوة مضادة لها تقوم أيضا على حتمية التغيير، تغيير الواقع الفكرى السطحى السائد فى المجتمعات العربية والإسلامية إلى واقع فكرى أكثر صلابة وقوة وتماسكا، إلى واقع يعرف أخطاءه ويعرف أيضا كيف يقوّمها، واقع يكتشف أولا بأول نقاط الضعف فى ذاته ويعمل أيضا من خلال آليات مشاركة وشفافية سلوكية إلى معالجة مكامن الضعف هذه وتحويلها إلى مكامن قوة. ثمة حاجة إلى استراتيجية بعيدة المدى تجفف المنابع الفكرية للإرهاب، بحيث تقيم سياجا من الفكر والعلم والإيمان الصحيح لدى الأجيال الجديدة يحول دون وقوعهم فى براثن التطرف والإرهاب ثانى هذه التوجهات ما يتمثل فى التحالفات التى أعلن عنها فى الأيام القليلة الماضية بين الولاياتالمتحدة ودول أوروبية وبلدان عربية من أجل مواجهة تنظيم داعش ودولته الممتدة فى أراضٍ سورية وعراقية. وهى تحالفات ما زالت فى طور التكوين، ولكنها تعد بشكل أو بآخر تجسيدا لقانون الفعل ورد الفعل المُساوى له فى الحجم والمضاد له فى الاتجاه. وبغض النظر عما يقال ويعتقد فيه البعض منا بأن داعش وأمثالها هى صنيعة أمريكية غربية تستهدف تحقيق مقولة الشرق الأوسط الكبير والفوضى الخلاقة وضمان أمن إسرائيل، فإن الواقع يشى بقدر من التعارض بين قوة التغيير الدينية المتطرفة وبين قوة المصالح الغربية، وهو التعارض الذى يؤدى إلى بناء تحالف مضاد وأعمال عسكرية جوية وبرية واستخباراتية. وكما تعلمنا خبرة التاريخ الإنسانى فإن التعارض هو المقدمة للصدام والحرب. والمفارقة هنا أن السعى إلى الحفاظ على الأمر الواقع ممثلا فى الدولة الوطنية سيؤدى إلى حرب بين جيوش نظامية وبين ميليشيات ومنظمات تمتد إلى مواقع وأماكن يصعب تحديدها بكل دقة. وبالتالى سيكون ثمن الحفاظ على واقع الدولة الوطنية الراهنة ممتدا وكبيرا فى آن واحد. ويحضرنى هنا تصريح وزير الخارجية السعودى الأمير سعود الفيصل الذى أعلنه فى المؤتمر الدولى حول العراق الذى عقد فى باريس ودعا فيه إلى أن يستمر التحالف الدولى ضد الإرهاب لمدة عشر سنوات مقبلة، فيما يعكس صعوبة المهمة التى تنتظر كل قوى الحفاظ على الأمر الواقع سواء كانت عربية أو غيرها. أما ثالث هذه التوجهات فيتمثل فى القوى التى تواجه قوى التطرف والإرهاب كما هو الحال فى الاتجاه الثانى، ولكنها ترى فى أدائه نقصانا ورعونة وتسطيحا. ويتضح الأمر فى تحركات روسيا وإيران اللتين تريان أن مواجهة التطرف وتنظيمات الإرهاب تبدأ أساسا من حماية سوريا وتنظيفها من هذه الجماعات التى تتدثر بغطاء المعارضة وهى فى حقيقتها نموذج آخر بل رئيسى لمنظمات الإرهاب العابر للحدود. ومثل هذه الإشكالية تعود إلى أحد بنود الاستراتيجية الأمريكية لمواجهة الإرهاب والتى تدعو إلى تقديم الدعم والمساندة والتدريب والسلاح إلى جماعات المعارضة التى تصفها بالمعتدلة فى سوريا لكى تقوم بمهمة مزدوجة، الأولى محاربة تنظيم داعش فى الأراضى السورية، والثانية استكمال مهمة إسقاط نظام الأسد. وهما الأمران المرفوضان من روسيا وإيران ودول عربية أخرى لا تعلن ذلك صراحة، وتتحفظ على التحركات الأمريكية وتعتبرها غير كافية. إن مصر التى فرض عليها التاريخ والموقع مسئوليات القيادة الطبيعية ليست أقل من أن يكون لها بصمتها فى صياغة العالم المعاصر هذه التوجهات الثلاثة تشكل قواعد اللعبة الإقليمية الدولية الجديدة التى سوف تستمر ربما لعقد أو أكثر. ومعنى هذا أن المنطقة العربية دخلت بالفعل عملية تغيير استراتيجية بعيدة المدى وهو ما يلقى علينا فى مصر أعباء مضاعفة، ويضع أمامنا كدولة وكمجتمع عدة تناقضات ومفارقات، ومن ذلك أننا نحارب بالفعل إرهابا شديد المراس وله امتدادات فى الخارج ويجد دعما ومساندة من دول إقليمية وأوروبية، فى الوقت الذى يطالبنا فيه الغرب بأن نكون طرفا فاعلا فى التحالف الذى تقوده الولاياتالمتحدة وبالشروط الأمريكيةوالغربية. وفى الوقت نفسه نجد قيادة هذا التحالف تتقاعس عن تقديم المساندة العسكرية المطلوبة فى صورة طائرات وأسلحة ضرورية للحرب التى تنخرط فيها قوات الجيش والبوليس. بل الأكثر من ذلك فبينما يأتى بعض وزراء الدفاع الأوروبيين إلى القاهرة يطرحون الأفكار والشروط ويمارسون بعضا من الضغط لكى تقبل مصر عضوية تحالف الراغبين من الدول تراه غير كاف بل ومؤذ فى بعض تفاصيله، نجد مفوضية الاتحاد الأوروبى تمارس ضغطا خبيثا فى مجال حقوق الإنسان وتقدم الدعم المعنوى لتنظيم الإخوان بحجة أنه حدثت انتهاكات لحقوق الإنسان أثناء تحرير منطقة رابعة من الاحتلال الإرهابى الإخوانى. وحين نتأمل هذين التحركين الغربيين المتناقضين، ندرك أن ما يجرى فى مصر يقلق الكثير من الدول الغربية، وأن هناك حالة من عدم الرضا لما استطاعت مصر تحقيقه من استقرار وتماسك داخلى يضرب فى الصميم كل استراتيجيات تغيير المنطقة سواء القادمة من تنظيمات العنف والإرهاب العابرة للحدود، أو التى يسعى إليها الغرب بقيادة واشنطن. وإذا رجعنا إلى ما جاء فى مقدمة هذا المقال بشأن صفقة سلاح مهمة بين مصر وروسيا يتأكد لنا أنه لا بديل أمامنا سوى العمل الدءوب لتعديل النظام الدولى، وإفساح المجال أمام أكثر من قوة دولية كبرى لتشارك فى تحديد مصير العالم، وتوسيع خيارات التعامل مع كل القوى الدولية بلا استثناء، وأن نشارك الصين مقولتها الشهيرة أن العالم النافع هو العالم متعدد الألوان، وتنتفى فيه سطوة طرف على آخر. إن مصر التى فرض عليها التاريخ والموقع مسئوليات القيادة الطبيعية ليست أقل من أن يكون لها بصمتها فى صياغة العالم المعاصر.