أفضل ما فى فيلم العيد «الفيل الأزرق» الذى كتب له السيناريو والحوار أحمد مراد، مؤلف الرواية، وأخرجه مروان حامد، هو هذه الجرأة فى تقديم مزيد فريد لا أعتقد أن السينما المصرية عرضته من قبل بهذا الإتقان والتأثير، أعنى تلك الخلطة من الدراما النفسية والغرائبية والبوليسية معا، الصعوبة فى الجمع بين عالم منطقى يعتمد على التشخيص العلمى والنفسى، وعالم لا نعرف حدوده ولا منطقه هو عالم الجان الذى قدمته أفلام سابقة أشهرها «الإنس والجن» للمخرج محمد راضى ولكن بنبرة وعظية، وبدرجة إتقان أضعف، ولكن «الفيل الأزرق» امتلك امتزاجا أقوى بين المنطق واللامنطق، كما جاء إلى عام 2014 مسلّحا بتقنيات الجرافيك، ما شاهدته فى الفيلم هو أفضل مستوى وصلت إليه هذه التقنية فى الأفلام المصرية مع أنها تشغل وقتا طويلا، الفيلم أيضا لا يكتفى بالإبهار البصرى (ونصيبه منه كثير ووافر)، ولكنه يرسم ملامح شخصيات غريبة مأزومة على المستوى الداخلى، طبيبان هما بطلا الفيلم، ورغم ذلك ستظل حائرا فى الفيلم (كما فى الرواية) هل هما طبيبان أم مريضان، ليس عالم الإنس بأقل غرابة وربما شذوذا عن عالم الجن، ويا لها من فكرة تستحق التحليل والتأمل. تعتمد السينما المعاصرة على ما أطلقت عليه «تداخل الأنواع»، لم يعد من السهل تصنيف الأفلام الأمريكية بشكل بسيط حتى وفق مفهوم النوع الكلاسيكى، «تيتانيك» مثلا هو مزيج مركب بين نوعين: الدراما الرومانسية، وأفلام الكوارث، والجسر الواصل بينهما هو السفينة، والفيلم يكاد ينشطر إلى نصفين كالسفينة سواء بسواء، وفيلم هام مثل «صمت الحملان» للمخرج جوناثان ديم هو مزيج بين الدراما النفسية، والدراما الغرائبية ممثلة فى حكاية آكل لحوم البشر .. الخ، ما أعجبنى فى «الفيل الأزرق» هو هذا الطموح فى التحليق بين عالمين مختلفين شكلا ومضمونا، يبدأ الفيلم كدراما نفسية : طبيب اسمه يحيى راشد (كريم عبد العزيز) يعود إلى عمله فى مستشفى العباسية بعد انقطاع استمر لمدة 5 سنوات، شكل الطبيب مضطرب وغير مهندم، سنعرف أنه مر بأزمة نفسية إثر مصرع زوجته وابنته، كان يقود السيارة بهما وهو مخمور، يشتبك الخط النفسى مع الخط البوليسى عندما يكلّف الطبيب بمتابعة مرضى قسم 8 غرب الخطرين الذين ارتكبوا جرائم قتل، هناك سيجد شريف (خالد الصاوى) زميله القديم الذى أودع القسم تحت الملاحظة بعد أن اغتصب وقتل زوجته بطريقة بشعة، يكاد يحيى يقوم بدور رجل التحقيق بحثا عما فعله زميله، وذلك بمعاونة لبنى (نيللى كريم) شقيقة شريف التى كان يحبها يحيى، ولم يستطع الزواج منها بسبب رفض شقيقها له. يعتمد الفيلم على الحوارات الكاشفة لشخصياته الثلاث، فى نفس الوقت الذى يعتمد على لعبة الشك بحثا عن إجابة لأسئلة متشابكة: هل شريف قاتل ومضطرب عقليا كما يبدو ؟ أم أن يحيى نفسه هو المضطرب ولذلك يحاول أن يسقط هلاوسه ومأساته على زميله القديم؟ أم أن هناك طرفا ثالثا استخدم جسد شريف لارتكاب الجريمة؟ السؤال الثالث سينقل الفيلم إلى مستوى آخر غرائبى هو عالم الجان، لايتم ذلك دفعة واحدة ولكن بالتدريج، هناك علامات تدل يحيى فى النهاية على أن طرفا ثالثا تقمص جسد زميله، وأن حواراته الطويلة المحيرة مع شريف أثناء العلاج لم تكن مع شخص واحد، ولكن مع شخصين، أحدهما جان تلبس جسد الطبيب شريف. الجان كما نعلم له أساس دينى (مذكور فى القرآن)، وله أساس حكواتى راسخ فى حكايات ألف ليلة وليلة، ولكن الفيلم والرواية ينطلقان إلى آفاق خيالية عن هذه الفكرة، ويقدمان علامات تقود إلى هذا العالم الذى لا نعرف عنه إلا أقل القليل، هناك قرص من العقاقير التى تنشط العقل يطلق عليه «الفيل الأزرق»، هو الذى سينقل يحيى عندما يتعاطاه إلى هذا العالم، بل إنه سيقوده إلى تاريخ أقدم تتكرر فيه الأحداث التى تكاد تطابق ما فعله شريف مع زوجته، سيكون هناك وشم على جسد الزوجة وآخر على جسد شريف سيقود يحيى إلى سيدة الوشم الغامضة ديجا (شيرين رضا)، ستكون هناك مفاتيح للتخلص من الطلسم، والتخلص من الجان نائل القابع فى جسد شريف، لا ينتصر الفيلم للخرافة، ولكنه ينحاز إلى الحبكة الغرائبية التى لا تتنافر مع بشر أكثر غرابة فى عقدهم ومآسيهم، حرية الفنان أن ينحاز إلى ما شاء بشرط أن يجعلك تعيش الحالتين الواقعية والخيالية، وقد فعل الفيلم ذلك بامتياز، مرة أخرى، وللتبسيط فقط، فإن فيلم «صمت الحملان» انحاز فى النهاية إلى الحبكة الغرائبية، بل لقد عاد د.ليكتر (أنتونى هوبكنز) من جديد ليتصدر بطولة الجزء الثانى، وكان هناك إقناع فى الجزء الأول سواء فيما يتعلق بتحليل عقدة الطبيبة (جودى فوستر) النفسية، أو بتقديم حياة آكل لحوم البشر الذى كان أيضا طبيبا، بل كانت هناك حبكة بوليسية عن سفاح يسلخ أجساد الجميلات. أردت أن أوضح لك أننا أمام بناء معقد فى فيلم «الفيل الأزرق»، الشخصيات أهم ما فيه، وسؤال الفيلم الأساسى بعيدا عن أشكال السرد الملتبسة هو مدى قدرة الإنسان (لا الجان) على أن يبدأ من جديد بعد أن وصل إلى حافة النهاية، هذا هو حال الأبطال الثلاثة :يحيى الذى فقد أسرته، عاد وعاش مخاضا عنيفا استرد بعده زميله وحبيبته السابقة وعمله، وشريف الذى فقد زوجته فى حادث بشع تخلص بعد معاناة من كائن آخر سلبه إرادته، وشقيقته التى فشلت حياتها الزوجية ستبدأ حياة جديدة مع يحيى، يقول يحيى إن البحر لديه القدرة على أن يغسل نفسه باستمرار، هكذا فعل أبطال الفيلم بعد أن تعمّدوا جميعا بالألم، الفيلم بهذا المعنى يكاد يكون رحلة إلى الجحيم الداخلى والخارجى المحيط بالإنسان، سيكون «الفيل الأزرق» نقطة تحول فى حياة صانعيه، أحمد مراد كاتبا للسيناريو نجح إلى حد كبيرفى الحفاظ على أفضل ما فى الرواية، شكل البناء يجمع بين التشويق والتأمل والغوص داخل الشخصيات من خلال الحوار، لم ينس أبدا أن روايته هى رواية شخصيات مأزومة وليست رواية جرائم وغرائب فقط، مروان حامد الموهوب وجد حلولا رائعة للتعبير عن التابوهات الجنسية ولمشاهد العنف، حتى الجريمة المحورية لا نراها إلا من خلال صور فوتوغرافية، ودون إعادة تجسيد بشاعتها (اغتصاب ثم قتل)، الشخصية المحورية يحيى تعتمد على تحليل الآخرين عن طريق لغة الجسد، نجح مروان أيضا فى تقديم مشاهد إنسانية ورومانسية مؤثرة بين يحيى وحبيبته القديمة، الممثلون الأربعة كريم عبد العزيز وخالد الصاوى ونيللى كريم وشيرين رضا قدموا أداء مميزا، كريم ابتعد عن الأداء من الخارج، مجرد ظهوره بهيئته المضطربة كان يوحى بمأساة كاملة، له مشهد رائع وهو يبكى متذكرا كارثة الحادثة التى تسبب فيها، خالد الصاوى لعب شخصيتين تقريبا فى معظم المشاهد، بدا أحيانا كالشيطان نفسه، نيللى كريم كانت مناسبة للشخصية وعبرت عن أزمة داخلية عنيفة بدون مبالغة، وشيرين رضا قدمت دور سيدة الوشم بغموض وشراسة تليق بالشخصية وعالمها العجيب، من نجوم الفيلم المميزين أيضا محمد ممدوح فى دور سامح، الطبيب المعالج الذى يحقد على يحيى، ممدوح ممثل رائع يستحق أدوارًا أكبر. العناصر التقنية كانت أيضا فى مستواها الرفيع، ديكورات محمد عطية بالذات للمستشفى ولمنزل يحيى، وصورة أحمد المرسى التى نقلت عالم الخيال والهلاوس بنفس البراعة التى قدمت فيها تفاصيل الواقع المؤلم، فى مشهد دخول منزل الزوجة القتيلة اعتمد المرسى على نور الموبايل المتاح، ونجح فى تقديم مشهد هام، وملابس ناهد نصر الله المناسبة لكل شخصية، أما موسيقى هشام نزيه فقد كانت أقرب إلى المؤثر الصوتى المفزع فى مشاهد المساجلات داخل المستشفى، ثم بدت شديدة العذوبة فى المشاهد الرومانسية بين يحيى وحبيبة زمان، ورغم طول الفيلم إلا أن المونتير أحمد حافظ قد نجح فى ضبط إيقاعه ما بين لحظات حوار طويلة، ومشاهد أحلام وهلاوس مذهلة وسريعة، إلى حد كبير كان الفيلم متماسكا، ونجح عموما فى أن يبنى منطقا موازيا مزج فيه عالما غرائبيا بآخر معقول، إنها تجربة مدهشة ومغامرة حقيقية فى سينما عاشت لسنوات على التقليد واللعب فى المضمون.