إذا كان على رأسك «بطحة» فسوف تتحسسها عندما تقرأ هذا العنوان، وهذا المقال فإذا شعرت بوجع فى رأسك فأنت بالفعل فاسد وسوف يزيد وجعك أن تواصل القراءة، لذا أنصحك أن ترفع عينيك فورا وتبحث عن كلام آخر ظريف ولطيف فى مكان آخر ، لكننى متأكد أنك سوف تواصل لتعرف إن كنت أنت المقصود وسوف تفتش عن نفسك بين السطور.. وهل جاء ذكرك فى الكلام بالتصريح أو التلميح؟! (1) أحد المرءوسين أمسك بورقة وقلم وكتب خطابًا إلى رئيسه فى العمل بدأه بهذه العبارة: «انت فاسد» ، وعاد ليؤكدها ويزيد عليها: نعم أنا أقصدك أنت.. فأنت المثال والنموذج وأنت تعرف ويعرف كل من حولك وكل من استفادوا بفسادك الذى مارسته من خلال موقعك؛ أنك فاسد، والآن يؤلمنى أننى خُدعت فيك فى البداية وزاد من ألمى مسوح التدين التى تحرص على إظهارها حين كنت تسرع ببسط سجادة الصلاة عند كل آذان ويصطف خلفك أعوانك من المستفيدين ومنهم من تعلل بأن الصلاة نقرة وممارسة الفساد نقرة، يخدّرون ضمائرهم المخدرة بالفعل ، ويركعون ويسجدون ولا تعى قلوبهم الذكر الذى يتلونه فى صلاتهم:: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤهاولكن يناله التقوى منكم ) فهل ظنوا أن الله يقبل صلاة الفاسد ولو صلى فى اليوم ألف ركعة؟! (2) الفساد عدوى تصيب المسئول وصاحب القرار فى بلادنا، وأهل الطب أخبرونا أن ما يشجع الجراثيم على مهاجمة جسم الإنسان هو نقص مقاومته، وأنه كثير ما تكون الجراثيم ساكنة عند منافذ الجسد والجروح فى حالة تربص لتنقض على صاحب الجسد بمجرد أن تنحط مقاومته، وهذا كلام علمى يصلح القياس عليه فى الحالات الإنسانية، فقط نستبدل الجسد «النفس» وبالجراثيم «أعوان السوء وبطانته» ونفهم أن هناك أشخاصا لديها استعداد للفساد والإفساد عندما تتاح لها الفرصة وأن هناك أشخاصا نفوسهم ضعيفة أمام مغريات الفساد والتحريض عليه من بطانة السوء التى غالبًا ما تتلاقى مع الفاسد فى طباعه وأخلاقه.. فهو فى الغالب يشبههم وهم يشبهونه (من الشبه والاشتباه) وهذه البطانة قد تكون من المرءوسين أو زملاء العمل أو الأهل والأصدقاء.. أو تتسع الدائرة ليصبح الفساد ثقافة عامة يتعارف عليها المجتمع ويمارسها أفراده دون غضاضة وقد يصل أمر القبول المجتمعى أحيانًا إلى إضفاء صفات إيجابية محفزة على السلوك المعوج مثل أن تتحول الرشوة إلى «تفتيح مخ» ويتحول الموظف المرتشى الذى يتجاوز القوانين والمعايير فى عمله إلى نموذج إيجابى ومن يرفض هذا فيوصف أنه شخص معقد وحنبلى، وفى مستويات الإدارة العليا فالمدير الذى يجزل العطايا والمنح لأعوانه المقربين وشلته يكون شخصا مرغوبا فيه يلتف حوله المستفيدون ويحرصون على بقائه على كرسيه أطول مدة ممكنة لأن فى ذلك ضمانة لهم للحصول على منافع لا يستحقونها فى الغالب إذا خضعوا للمعايير أو القوانين الضابطة.. وهم يجرون إلى نادى المنتفعين أعضاء جددا ممن يقولون لأنفسهم «اشمعنى أنا» عندما يرون من حولهم فى سباق نحو المغانم المستباحة من المال العام وحقوق الناس، يحدث هذا فى المجتمعات التى اتفقت فيها الأغلبية على أن تغمض أعينها وتنضم إلى قطيع الفاسدين حتى يصبح الفساد حالة عامة يرمى فيها كل فرد التهمة على الآخرين ويغطى على فساده بإتقانه لدور المغلوب على أمره وطالب الشرف أو مفتقده.. وإذا تعارف المجتمع واتفق على هذا فقد كتب شهادة انحطاطه وترديه الأخلاقى وأسس لدولة الظلم. (3) وفى دول الغرب التى يراها البعض كافرة تم الوصول منذ زمن بعيد على وصف وتعريف للفساد ليتجنبوه، وفى قاموس أكسفورد الإنجليزى تم تعريف الفساد بأنه: انحراف وتدمير النزاهة فى أداء الوظائف العامة من خلال الرشوة والمحاباة، وكما ترى يشير هذا التعريف إلى الفساد الاقتصادى الذى هو أعم وأشمل فى البلاد والعباد. وفى علم الجريمة أن مظهر هذا النوع الأخير من الفساد يتمثل فى الانحرافات المالية والإدارية التى ترتكب عن طريق كيان مؤسسى أو شركة لها شخصية قانونية مستقلة يمثلها أشخاص طبيعية يقومون بإدارة أنشطتها بالمخالفة للقواعد والأحكام المالية والإدارية التى تنظم سير العمل فى هذه الشركة أو المؤسسة (أيها المدير هل أفسدت اليوم؟!). وفى السنوات الأخيرة (الربع قرن على الأقل) انتشر وطغى وطفح هذا النوع من الفساد بدعم ومباركة سياسية من مسئولين طال بهم الأمد على كراسيهم وأسنت مياه البرك التى يسبحون فيها حتى تصاعدت منها الروائح الكريهة. وعودة إلى بلاد الكفار أيضًا سوف نجد لديها مقاييس للأمانة ومؤشرات لقياس الفساد، وآخر ما وصلنا من هذه المؤشرات تقرير منظمة الشفافية العالمية الصادر قبل ساعات والذى صنّف مصر فى مركز متأخر جدًا بين الدول التى ينتشر فيها الفساد (المركز 114 من بين 177 دولة) حتى أن مصر لم تستطع أن تحصل على الحد الأدنى من الدرجات أو متوسط النجاح المتعارف عليه عالميًا وهو 43 درجة من 100 وانحطت درجتها إلى 32 درجة وسبقها فى التصنيف والدرجات عديد من دول المنطقة والدول العربية ومنها إسرائيل وقطر والبحرين والسعودية وعمان والأردن والكويت والمغرب والجزائر وتونس رفيقة درب الربيع العربى، والإمارات التى احتلت المركز الأول عربيًا محققة 69 درجة، فقط نذكّر أن هذا التقرير ومؤشره الذى يقيس مدركات الفساد المتمثلة فى استغلال السلطة والرشوة والتعاملات السرية ونقص الشفافية هدفه التنبيه على أن الفساد يواصل النهش فى جسد الدول والشعوب التى تشبه حالتنا. (4) هل أصابك اليأس والإحباط؟! انتظر حتى تعرف الآتى، وملخصه أن هناك طرقا عديدة لمكافحة الفساد وعدم الاستسلام له، هذه الطرق تبدأ من إدراك أن ما يشجع المجرم على اقتراف جريمته هو استسلام الضحية، هذا الاستسلام الذى لا يعنى إلا اكتمال الفعل ووقوع الجريمة، أما المقاومة فعلى الأقل تمنح فرصة فى منعها أو التقليل من آثارها. وفى الدول والمؤسسات التى تسعى لمقاومة الفساد ومكافحته هناك ما يعرف بمدونات السلوك ومواثيق الشرف واللوائح المنظمة للعمل تشمل من معايير تحدد للعاملين فى المؤسسات مجموعة السلوكيات والقيم التى ينبغى مراعاتها فى أداء وظائفهم ومهامهم.. فإذا ما تم تجاوز هذه اللوائح والمعايير هناك المساءلة، سواء داخل المؤسسة من خلال التقارير الدورية التى يقدمها الموظف العام عن نتائج عمله وكفاءته ومدى تحقيقه للأهداف المقررة لوظيفته والقرارات المؤثرة التى اتخذها ونتائجها. وإذا ما تجاوز الموظف اللوائح الداخلية للمؤسسة أو الشركة فهناك مساءلة أو محاسبة من نوع آخر تكفلها الجهات الرقابية على هذه المؤسسات وفى مصرنا العزيزة لدينا من هذه الجهات الكثير المعلوم منها والذى يجهله الكثيرون.. هناك هيئة الرقابة الإدارية وقد أنشأت خطًا ساخنًا للإبلاغ عن الفساد الإدارى رقمه 19117 ويمكنك بسهولة البحث على شبكة الإنترنت والاطلاع على المهام العديدة والجليلة للرقابة الإدارية ووظيفتها فى محاربة الفساد.. وهناك أيضًا الجهاز المركزى للمحاسبات الذى يختص بالرقابة المالية بشقيها المحاسبى والقانونى والرقابة على القرارات الصادرة فى شأن المخالفات المالية، وفى مؤسساتنا العامة هناك مندوب مقيم للجهاز يمارس عمله بصفة دائمة ومنتظمة، فلماذا نشكو من الفساد؟! ويمكن أن أعد لك عشرات من الأجهزة الرقابية والجهات القضائية التى تتولى فحص شكاوى الفساد وتحقيقها فى مصر.. هذه الجهات التى لن تعمل من فراغ ولا ينقصها لحسن أداء وظيفتها إلا معاونة الشجعان من المواطنين بشرط ألا يتجاوزوا الحق وأن يتحملوا فى نفس الوقت مسئوليتهم فى حماية المال العام والحقوق العامة ابتغاء ومرضاة لوجه الله ووجه الوطن، ونصيحتى الأخيرة أن تتأكد قبل الاتهام حتى لا تظلم فإذا ما تأكدت لا تقبل بالظلم لنفسك أو للآخرين.. أما حكاية المرءوس الذى كتب رسالة لمديره يقول له فيها أنت فاسد فمازال له بقية فانتظروها فى قريب الأيام.