اتفقنا أو اختلفنا فإن حرب أكتوبر هى أعظم انتصار حققته مصر على امتداد تاريخها الحديث.. ليس فقط لأنه انتصار مبهر على العدو الإسرائيلى.. وإنما أيضا لأن هذا الانتصار ولد من رحم الهزيمة والنكسة.. كأننا انتصرنا مرتين فى حرب واحدة.. مرة على العدو ومرة على الهزيمة! ومثل غيرى من الذين عاصروا هذه الحرب وعاشوا تفاصيلها وذاقوا حلاوة انتصارنا فى هذه الحرب.. أحتفظ بالكثير من الذكريات.. ذكريات الانتصار وذكريات الاحتفال بالانتصار. وكم تبدو المفارقات غريبة.. وكم تبدو المشاهد الخاصة للحرب وذكراها عند كل واحد منا.. عجيبة! المشهد الأول - أكتوبر 1973 الصدفة وحدها جعلتنى أقلب مؤشر «الراديو» قبل دقائق قليلة من إذاعة البيان رقم (1) الصادر عن القيادة العامة للقوات المسلحة.. يوم السبت الموافق 6 أكتوبر من عام 1973. كانت الساعة قد تجاوزت الثانية ظهرا وكانت ساعات الصيام قد دخلت ربعها الأخير عندما انطلق صوت المذيع بكلمات البيان الأول: «قام العدو الساعة الواحدة والنصف بعد ظهر اليوم بمهاجمة قواتنا بمنطقتى الزعفرانة والسخنة بخليج السويس بواسطة تشكيلات من قواته الجوية.. عندما كانت بعض من زوارقه البحرية تقترب من الساحل الغربى للخليج.. وتقوم قواتنا حاليا بالتصدى للقوات المغيرة». لم أكن أعرف ساعتها أن كلمات البيان غير صحيحة وأن العدو لم يهاجمنا الساعة الواحدة والنصف لا فى الزعفرانة ولا فى السخنة ولا فى أى منطقة أخرى.. وإنما كان المقصود بالبيان إعلان الحرب على إسرائيل! نبهنى زميلى وصديق عمرى - المهندس جلال عبدالحميد - رحمه الله.. والذى كان من أبناء السويس المهجرين بعد حرب 67.. نبهنى إلى أن صدور بيان عسكرى من القيادة العامة للقوات المسلحة يختلف عن كل البيانات العسكرية التى كنا نتابعها على امتداد سنوات حرب الاستنزاف التى سبقت حرب أكتوبر.. وهو ما جعلنى أقلب مؤشر الراديو وأفتح التليفزيون بحثا عن أخبار جديدة. بعد حوالى 15 دقيقة صدر البيان رقم (2) وتوالت بعد ذلك البيانات العسكرية الصادرة عن القيادة العامة للقوات المسلحة.. وأدركنا أنها الحرب! فى البداية خفت وتحيرت.. خفت أن تكون بياناتنا العسكرية امتدادا لبيانات نكسة يونيو 67 التى كانت تتحدث عن تساقط طائرات العدو كالذباب.. بينما كانت طائراتنا هى التى تضرب على الأرض!.. وعن جنودنا الذين كانوا يقتربون من تل أبيب.. بينما كانوا تائهين فى صحراء سيناء! كانت فرحتنا غامرة عندما اكتشفنا أن بياناتنا العسكرية دقيقة وصادقة.. والأهم أننا نقاتل بكفاءة واقتدار.. وبدأنا نشم روائح الانتصار. طائراتنا تشن ضربة قوية وتعود جميعها إلا طائرة واحدة.. جنودنا يعبرون خط بارليف الحصين ويتمكنون بمدافع المياه من تحطيمه.. سلاح المهندسين ينجح فى إقامة كبارى العبور.. وتتساقط نقاط العدو الحصينة واحدة وراء الأخرى.. ويتبارى جنودنا البواسل فى صنع بطولات ومعجزات.. ويمنع حائط الصواريخ الطائرات الإسرائيلية من الاقتراب من أراضينا.. وتخوض مدرعاتنا معارك شرسة. وتنتصر مصر وتشتعل الفرحة فى قلوب المصريين. وكانت الصدفة أيضا هى التى جعلتنى أتواجد فى شارع رمسيس بينما كان موكب الرئيس السادات متوجها لمجلس الشعب لحضور الجلسة التاريخية التى تم فيها تكريم القادة العسكريين. كان السادات - رحمه الله - وراحت الجماهير، وأنا واحد منهم، تصفيق له بمنتهى القوة والحماس.. وإن كانت فى الحقيقة تصفق للجيش المصرى الذى كان السادات مرتديا زى قائده الأعلى! *** المشهد الثانى - أكتوبر 1989 التقيت بالمشير محمد عبد الغنى الجمسى - رحمه الله - أكثر من مرة.. حوالى أربع أو خمس مرات.. وفى كل مرة.. كنت أشعر أننى أجلس أمام التاريخ!.. كأننى جالس أمام الأهرامات أو معابد المصريين القدماء. المشير الجمسى كان واحدا من أبطال حرب أكتوبر وقد تم تصنيفه ضمن أبرع 50 قائدا عسكريا فى التاريخ كما ذكرت أشهر الموسوعات العسكرية العالمية. شغل الجمسى منصب رئيس المخابرات الحربية عام 1972 ثم رئيس أركان الجيش المصرى عام 1973 ثم وزير الحربية عام 1974. أول مرة التقيت فيها بالجمسى كانت فى أكتوبر من عام 1989 فى ذكرى الاحتفال بنصر أكتوبر.. حاولت قدر الإمكان أن أحصل على أسرار لم تنشر من قبل عن الحرب فعرفت منه الكثير.. كيف خدعت مصر إسرائيل.. كيف تم تدريب الجندى المصرى على القتال بمنتهى الكفاءة.. كيف تم وضع خطة الحرب.. كيف استطاعت قيادة الجيش الاحتفاظ بموعد الهجوم سرا.. وغيرها من الأسرار المثيرة.. عشت معه الأيام التى سبقت الحرب وقرأت معه ما تحتويه «كراسة الجمسى» وهى الكراسة الشهيرة التى ضمت كل التفاصيل الدقيقة لحظة الهجوم.. ودخلت معه غرفة العمليات وعشت معه لحظة الانتصار. وتكرر لقائى بالمشير الجمسى بعد ذلك.. وتكررت حواراتنا الصحفية.. وفى كل مرة كنت أشعر أننى أجلس أمام التاريخ.. تاريخ العسكرية المصرية! *** المشهد الثالث - أكتوبر 2010 حضرت الكثير من الاحتفالات التى نظمتها القوات المسلحة فى ذكرى انتصار أكتوبر.. معظم هذه الاحتفالات أقيمت بالصالة المغطاة بمدينة نصر.. وهى فى العادة تشمل عروضا فنية وعسكرية. الاحتفال الذى حضرته فى أكتوبر من عام 2010 لم يختلف كثيرا عما سبقه من احتفالات.. عروض فنية وعسكرية.. غير أنه كان احتفالا مميزا.. فلم يقم فى الصالة المغطاة وإنما أقيم على أرض سيناء.. على مساحة واسعة من أرض سيناء التى شهدت معارك حرب أكتوبر وشهدت أيضا الكثير من الحروب التى خاضتها مصر على امتداد تاريخها القديم والحديث. العرض الذى شاهدناه فى هذا الاحتفال أثار إعجابنا بل وأثار انبهارنا فقد استخدم فيه الليزر بشكل حديث كما تم فيه توظيف أعداد هائلة من جنودنا البواسل للمشاركة فى العرض.. أما أكثر ما أثار إعجابنا وانبهارنا فى هذا الاحتفال فهو طريقة الوصول إلى مكان الاحتفال! وصلنا الإسماعيلية ومن الإسماعيلية عبرنا إلى الضفة الشرقية لقناة السويس.. لم نعبر فى لنشات أو مراكب أو ما شابه وإنما عبرنا بنفس الطريقة التى عبر بها جنودنا القناة فى أكتوبر من عام 1973.. عبرنا فوق معابر أقامها سلاح المهندسين بنفس الطريقة التى أقيمت بها المعابر التى أقيمت عام 1973. عبرنا القناة مثل جنودنا البواسل.. بنفس الطريقة ونفس الأسلوب.. الفارق الوحيد أننا كنا ذاهبين للاحتفال بينما هم كانوا ذاهبين للموت والشهادة! *** المشهد الرابع - أكتوبر 2012 لم أصدق نفسى وأنا أتابع الرئيس المعزول محمد مرسى يطوف بعربة مكشوفة استاد القاهرة خلال الاحتفال بذكرى حرب أكتوبر المجيدة.. كأنه بطل الحرب.. بطل العبور!.. ولم أصدق نفسى وأنا أرى قتلة السادات يتصدرون الحضور كأنهم أبطال النصر. انتابنى حزن عظيم وهائل وقلت لنفسى: نصر أكتوبر ضاع.. الإخوان سرقوه! *** المشهد الخامس - أكتوبر 2013 الحمد لله الجيش الذى حقق الانتصار.. استرد الانتصار!