تجاوزت الدراما الموسيقية على المسارح وفى قاعات السينما الأوروبية منذ سنوات طويلة، فكرة أن تحصر نفسها فى التعبير عن قصة خفيفة مرحة، وأصبحت قادرة على تحويل أى حكاية أو موضوع إلى عمل غنائى مذهل، شاهدنا أمثلة كثيرة على ذلك منذ أفلام «الملك وأنا» و«صوت الموسيقى» و«قصة الحى الغربى» و«ليفر» و «كبارية» وكل هذا الجاز وشيكاغو، ولذلك لم أن أندهش وأنا أشاهد فيلمًا بريطانيا رفيع المستوى بعنوان «les?miserables» عن رائعة فيكتور هوجو، ومن إخراج توم هوب، وبطولة نخبة من النجوم والنجمات مثل «هيوجا كمان» و «راسيل كرو» و «ساشا بارون كوهين» و«هيلينا بونهام كارتر» والممثلة الشابة «أماندا سيفريد». الفليم إعداد سينمائى عن مسرحية موسيقية بنفس العنوان، ورغم أن قصة رواية البؤساء التى كتبها هوجو لإدانة القوانين العمياء والفقر المدقع معروفة أو قدمت فى أعمال متعددة وتقريبا بكل لغات العالم، إلاّ أن الفيلم نجح فى جذب اهتمام مشاهديه بأغنياته أو لوحاته الغنائية المدهشة، وبدرجة الفهم العميق للرؤية، وبالتحليل الجيد لشخصياتها، وخصوصا جان فالجان، والضابط الصارم الذى يطادره جافييز، كما ينتهى فيلم البؤساء نهاية متفائلة تنتصر للحب وللأمل وللحلم بالحرية، كل ذلك فى إطار تنصهر فيه عناصر الفيلم السينمائى صوتا وصورة، مما يضيف بالفعل إلى قائمة الأعمال الطويلة التى تناولت رواية هوجو الشهيرة. تناول الرواية الشهيرة الحالة البائسة للمواطن والمجتمع الفرنسى فى فترة عاصفة ومتقلبة، ما بين سقوط نابليون بونابرت، وصولاً إلى ثورة فاشلة عام 1832، ويتحدد طرفا الصراع بوضوح، فى الفيلم كما فى الرواية، بين جان فالجان (هيو جاكمان) الرجل الذى سجن 20 عامًا بعد ان سرق رغيفًا لإطعام ابنة شقيقته، حكم عليه أولًا بخمس سنوات، ولكنه كان يحاول الهروب بلا جدوى مما أدى إلى تراكم الأحكام عليه، أما الطرف الثانى فى الصراع فهو الضابط «جافييز» (راسيل كرو) الذى سينهى إجراءات الإفراج عن فالجان، ولكن بشرط أن يمثل أمام البوليس فى أى وقت، وبشرط أن تبقى معه وثيقة تثبت أنه خطر على الأمن، وبسبب هذه الوثيقة لن يجد فالجان عملا، ولن يجد «مأوى إلا عند قس الكنيسة الطيب». نقطة التحول فى حياة اللص العجوز عندما يسرق القس الطيب ولكن القس يحميه من البوليس وبرغم أنه هو الذى أعطاه المسروقات، تتغير حياة جان فالجان، نراه وهو يراجع نفسه، ثم يقرر أن يمنح روحه لله، تلقى وثيقة الضابط فى الهواء، ويرفض العودة إلى الشرطة، يغير اسمه، ويبدأ حياة جديدة تحت اسم العمدة مادلين. نشاهده وقد أصبح صاحب مصنع تعمل فيه مجموعة من النساء الفقيرات البائسات، إحداهن اسمها فانتين (أن هاتراى) تورطت فى حمل غير شرعى، وانجبت طفلة اسمها كوزيت، وبسبب الإنفاق على طفلتها، وارسال النقود إليها، تحترف الأم فانتين الدعارة بعد طردها من العمل، يشعر مادلين بالذنب فيحملها إلى المستشفى، ويعد الأم أن يرعى ابنتها، ثم يهرب من المدينة بعد موتها، وبعد أن اكتشف جافييز حقيقته كهارب من الشرطة. يذهب جان فاجان إلى الفندق الذى تعمل فيه «كوزيت» كخادمة، صاحب الفندق لص وأفاق ونصاب يلعب دوره ساشا بارون كوهين، وزوجته تشاطره نفس السلوك الانتهازى (هيلين بونهام كارتر)، يدفع «جان فالجان» مبلغا من المال للزوجين، وينطلق بالطفلة «كوزيت»، بعد 9 سنوات يعود معها إلى باريس، لقد أصبحت الطلفة الآن شابة جميلة، العاصمة نفسها تمر بتغيرات كاملة بسبب تجهيز مجموعة من الشباب منهم ماريوس لثورة تعيد الكرامة والاعتبار للبائسين وللشحاذين والفقراء، نتعرف وسط الحكاية عن أحد هؤلاء، وهو الصبى الذكى المتسول جافروسن، كما تبدأ قصة حب بين «ماريوس» و «كوزيت»، فى الوقت الذى تعجب فيه الفتاة الفقيرة «أبيونين» ب «ماريوس» ولكن من طرف واحد، يزيد الموقف تعقيداً بظهور الضابط «جافييز» من جديد لمطاردة «جان فالجان» فى باريس ثم ينضم «جافييز» للثورة لإفشالها، فى حين ينضم «جان فالجان» للشباب الثائر من أجل حماية «ماريوس». فى يوم محدد تندلع الثورة، يقوم أهل باريس بإغلاق الشوارع بالمتاريس، بعضهم يحمل البنادق، والجميع يحركون الأعلام، ولكن القوة الغاشمة تنتصر فى النهاية، يكتشف الثوار حقيقة «جافييز»، ولكن «جان فالجان» المتسامح يتدخل، ويطلق سراحه دون شروط، يواجه الضابط نفسه لأول مرة، يشعر بأن خصمه قتله بسلوكه النبيل، ينتحر «جافييز»، بينما ينجح جان فالجان فى إنقاذ «ماريوس» من الموت، بارك زواجه من كوزيت، ويقرر الانسحاب والهرب بعد أن يعترف لماريوس بحقيقة حياته فى السجن، ومطاردة الشرطة له. يعود جان فالجان إلى الكنيسة، يشعر بالوحدة، تظهر له «فانتين لتباركه لأنه قام برعاية ابنتها، يظهر له القس الذى انقذ روحه وغير حياته بأكملها، يموت «جان فالجان» وسط «ماريوس» و«كوزيت»، ولكن الفيلم لاينتهى عند هذا الحد، يتم بعث كل الثوار الذين ماتوا فى المعركة الشرسة ضد مدافع وبنادق الدولة، كما ينضم «جان فالجان» والقس الطيب وفانتين إلى الجميع فى أغنية تبشر بالغد القادم، ولعالم أكثر سعادة يحترم الإنسان وحريته، ويوفر له الحد الأدنى من الحماية ومن الطعام، لم يستطع البؤساء ان ينتصروا فى الواقع، فأصبح دور الفيلم أن يجعلهم ينتصرون على مستوى الحلم، والذى هو بلا جدال حلم البشرية كلها. الفيلم المؤثر ملىء باللوحات الغنائية البديعة نذكر منها لوحة تحكى فيها «فانتين» مأساتها، وانخداعها فيمن أحبته، وتشكو من انتهاك جسدها وحريتها ولوحة أخرى غنائية تنتهى بمبارزة بين العمدة مادلين وجافيير تتداخل فيها كلماتهما، ولوحة ثالثة لأغنية الثوار استعدادا للتمرد العاصف، ولوحة رابعة تغنى فيها الفتاة ابيونين عن مأساة حبها ل «ماريوس» الذى لا يشعر بها، كما يبدأ الفيلم بلوحة رائعة لغناء المساجين الذين يرددون عبارة اخفضوا عيونكم وبينهم السجين جان فالجان حيث يبدو ناقما على الحياة، وفاقدًا للإيمان حتى يسترد روحه على يد قس الكنيسة، تميز هوجاكمان فى دوره الصعب، كما خطفت أن هاتواى الأضواء من الجميع بأداء مؤثر، وكان البطل الأول للفيلم موسيقى الملحن الفذ كلود ميشيل شونبرج التى لايمكن أن تنسى والتى صنعت من البؤساء ملحمة غنائية معاصرة جداً لأنها عن الانسان المقهور فى كل عصر وأوان