عقب ثورات الربيع العربى، وهبوب رياح التغيير على أنظمة بعض الدول العربية، وما تبعها من صعود للتيارات الإسلامية إلى سدة الحكم، أصبح النموذج التركى الديمقراطى تحت مظلة حزب العدالة والتنمية الحاكم مثالا يحتذى لدى بعض هذه الدول التى ظلت تعانى الظلم والقهر تحت وطأة أنظمة شمولية لعقود طويلة ، غير أن المتأمل بنظرة عميقة إلى النوذج التركى، سيفاجأ بقدر من التشوهات التى قد تؤثر مستقبلا على هذا النموذج وتهدد مساره. أحد أخطر هذه التشوهات، تجسده المحاولات المستمرة من النظام لتكبيل وقمع وسائل الإعلام بصفة عامة والصحافة المطبوعة بصفة خاصة. فخلال الشهرين الماضيين زادت حكومة حزب العدالة والتنمية من وسائل التضييق على الصحافة حيث وصل عدد الصحفيين داخل السجون التركية إلى 76 صحفيا، آخرهم فى بداية شهر ديسمبر الجارى، إلى جانب عدد آخر مازال يلاحق قضائيا. وفى تصريح تناقلته العديد من الصحف التركية وعلى رأسها صحيفة «أكشام» و«مليات»، أعرب بيتر بريستون أمين اتحاد الصحفيين الأتراك عن حزنه لتراجع حرية التعبير عن الرأى خلال الفترة الماضية، مؤكدا أن الاتحاد يبحث سبل الإفراج عن الصحفيين المقبوض عليهم مع كل من السلطات التركية ورموز المعارضة كرئيس حزب الشعب الجمهورى «كمال كليتشدار أوغلو»، والعمل كذلك على وضع ضوابط لعدم تكرار تلك الأحداث. ومن جهة أخرى، أدانت منظمة «اللجنة الدولية لحماية الصحفيين» بنيويورك فى تقريرها الشهرى، أداء الحكومة التركية تجاه وسائل الاعلام، مشيرة إلى أن رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان وحكومته يشنون حربا على حرية الصحافة هى الأكبر فى التاريخ الحديث. وفى الوقت الذى تنفى فيه السلطات التركية أن يكون العمل الصحفى سببا وراء اعتقال صاحبه أكدت المنظمة أن ما لديها من مصادر تؤكد أن أكثر من 60 صحفيا داخل السجون التركية لأسباب تتعلق مباشرة بطبيعة عملهم وأغلبهم من الأقلية الكردية، الأمر الذى نفته الحكومة التركية على لسان المتحدث الرسمى بولنت أرينج، معربا عن اندهاش حكومته من الخلط بين الاعتقال لأسباب جنائية والانتماء إلى منظمات إرهابية والاعتقال بسبب الاختلاف فى التعبير عن الرأى، مؤكدا رفض حكومته لهذا التقرير واعتباره تدخلا فى الشأن الداخلى لبلاده. وفى استطلاعات للرأى أجريت مؤخرا، أبدت الشريحة المثقفة داخل المجتمع التركى- والتى تشكل قاعدة كبيرة - تخوفا متزايدا تجاه تنامى نزعة التطور الاقتصادى الهائل فى مقابل التضييق الخانق على الحريات، وهى نزعة منتشرة فى دول أخرى كالصين وروسيا، وهو ما عبر عنه الكاتب عبد الله بوزكورت بصحيفة «مليات»، بأن خطر تلك النزعة يكمن فى أن نجاح الدولة فى مجال الاقتصاد يخلق لدى العامة من الشعب شعورا خادعا يجعلهم يغفرون لحكوماتهم خنق حرياتهم مقابل الرفاهية المادية. ويرى المعارضون لرئيس الوزراء رجب أردوغان، أن الأخير قد عزز من قبضته على السلطة وأصبح أقل تسامحا مع الانتقاد، وأن حكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم أصبح من السهل عليها السيطرة على وسائل الإعلام بالشراء أو بالتهديد، وفى تصريح للكاتب والناشط السياسى راغب زاراوغلو، أكد أن تركيا أصبحت سجنا كبيرا يطارد فيه كل صاحب رأى مخالف عن رأى الحكومة وسياساتها، مطالبا الاتحاد الأوروبى بالضغط على حكومة حزب العدالة والتنمية من أجل وقف الانتهاكات لحرية التعبير وضمان أمن الصحفيين وحرية عملهم مستشهدا باعتقال الصحفيين أحمد شيق ونديم شنار على خلفية تنظيم «أرجينكون» الإرهابى، وكذلك إقالة الكاتب على عقل من صحيفة «ينى سافاك» بعد أن كتب مقالا انتقد فيه بشدة أداء رئيس الوزراء وحكومته. ودعا اتحاد الصحفيين الأتراك، الصحف إلى الإضراب عن العمل نهاية العام الجارى فى حال عدم الاستجابة لمطالبهم، ووفقا لمنظمة «مراسلون بلا حدود» احتلت تركيا المركز 148 من أصل 179 دولة فى مؤشر حرية الصحافة لعام 2012، كما احتلت مركزا متقدما فى قائمة اضطهاد الصحفيين متجاوزة فى ذلك إيران والصين وإريتيريا. وعلى الجانب الآخر، يرى مؤيدو الحكومة أن أردوغان قد ساهم فى توسيع آفاق الحريات، ويضربون مثالا على ذلك أنه قبل عشر سنوات فقط كان نطق كلمة «أكراد» فى تركيا يجلب الكثير من المشاكل لصاحبها، أما اليوم فهناك قناتان تليفزيونيتان باللغة الكردية، ويضيفون أن ما تفعله وسائل الإعلام من محاباة للحزب الحاكم يعود لأصحابها أو القائمون عليها بسبب رغبتهم فى الحفاظ على علاقة جيدة مع السلطة مما يخلق نوعا من الرقابة الذاتية تضيق من مساحة الحريات المتاحة.