تحل الذكرى السنوية لثورة 1952 يوم 23 يوليو من كل عام تحتفل بها مصر وتعتبر هذا اليوم هو اليوم الوطنى، وقد ارتبطت هذه الذكرى بالجيش وبجمال عبد الناصر، فهى حركة جيش حولها عبد الناصر إلى ثورة اجتماعية تنشد العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الدخول وصياغة المجتمع، وثورة فى استقلال مصر عن بريطانيا واستقلال القرار الوطنى عموماً. ولذلك ربط البعض بين هذه الثورة وعبد الناصر، بحيث اتخذ الكارهون والمناصرون لعبد الناصر موقفاً سلبياً أو إيجابياً منها، بل إن البعض اعتبر أن المجتمع المصرى والمدنية المصرية قد نالها الكثير بسبب هذه الثورة، بينما رأى آخرون أن الثورة صحيحة، لكن تأسيسها لحكم المؤسسة العسكرية هو أسوأ ما خلفته هذه الثورة. أما الإخوان المسلمون والإقطاع ورأس المال فهم أهم المضارين ليس من الثورة ذاتها ولكن من سياسات الحكم بعد الثورة، بل إن ذكرى الثورة ارتبطت بذكرى عبد الناصر الذى عانى الإخوان منه أكثر من غيرهم دون أن يكتب أحد بشكل موضوعى عن جوانب حكم عبد الناصر المختلفة وما يخص منها الإخوان المسلمين، والأغرب أن بعض متطرفى التيار الناصرى يرون فى استمرار معاداة الإخوان إحياء لخط عبدالناصر لدرجة أن ابنته فضلت التصويت للفريق احمد شفيق تطبيقاً لهذه النظرية، وهذه النظرية لها دلالات خطيرة فى فهم السياسة وسلوكياتها. كانت السياسة الخارجية لمصر الثورة عام 1952 هى تقديم السياسات الجديدة والسعى إلى استقلال مصر والدفاع عن المواقف المصرية فى معارك مصر الثورة فى الداخل والخارج، مع الإقطاع ورأس المال ومحاكمات الثورة، وإلغاء الأحزاب السياسية، والدساتير الانتقالية والتأميم والتمصير وصد العدوان الثلاثى ومعركة السد العالى والتطبيق الاشتراكى وحرب اليمن والوحدة المصرية السورية والانفصال وأخيراً هزيمة يونيو المنكرة للجيش والدولة والثورة معاً. تحولت دبلوماسية مصر إلى إقناع العالم بالحلول السلمية لزوال الاحتلال الإسرائيلى الذى أصبح مادة جديدة دائمة فى مصطلحات الدبلوماسية الدولية ملازمة لأزمة «الشرق الأوسط» ثم تحولت هذه الدبلوماسية للدفاع عن حق مصر فى حرب الاستنزاف، حتى إذا قررت مصر شن حرب تحرير سيناء عام 1973 انشغلت هذه الدبلوماسية بكسب الرأى العام عن الجهود العربية فى مجال دعم هذه الحرب. وما بين عام 1973 و1979 دخلت واشنطن بشدة على الخط فتحول نقدها لدورها فى حرب 1973 إلى إطراء وتقارب معها وإثناء على جهودها فى تحقيق السلام بين مصر وإسرائيل فى الوقت الذى تقدمت فيه جهود تقارب مصر وإسرائيل برعاية واشنطن خاصة فى اتفاق فك الاشتباك عام 1975 وزيارة السادات للقدس 1977 ثم كامب ديفيد 1978 والسلام 1979، وكانت السنوات الست كافية لتحول مصر تماما من حليف للاتحاد السوفيتى، على رأس العالم العربى، مناهضة للعدوان الإسرائيلى إلى التحالف مع واشنطن وإسرائيل ضد موسكو والسعى لكى يلحق العالم العربى بركب الانحناء المصرى والحج إلى الكعبة السياسية الجديدة، وبسرعة تحولت دبلوماسية مصر من الوساطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى تبنى المطالب الإسرائيلية فى مواجهة الفلسطينيين والإسهام فى الدجل الدبلوماسى الذى عمل جاهداً على تصفية القضية فى إطار تخلى مصر تماماً عن مصالحها ودورها الوطنى أمام الاختراق الأمريكى والإسرائيلى والعربى. وبطبيعة الحال برع مبارك فى اختيار الوزراء الصالحين للمهمة الجديدة وهى القدرة على الدفاع عن دبلوماسية الخضوع والتآمر على المصالح الوطنية المصرية وتسويق الحق فى تعذيب المواطنين تحت ستار السيادة الوطنية. وساهم الإعلام مع الدبلوماسية الهابطة فى تصوير هذا التحول على أنه قمة الوطنية المصرية والدفاع عن الاراضى المصرية ضد «الغزو الفلسطينى» والأنكى أن وزير الخارجية بدأ فى إعلام الدولة يكتب مذكراته وبطولات حرب أكتوبر رغم تواضع قدراته الشديد بل وأدائه الذى كان يدعو للرثاء، وهى المرحلة التى اضطرتنى إلى الاستقالة بعد تبنى الفساد والفجور الدبلوماسى واستهداف المصالح المصرية هدفا فى الدبلوماسية المصرية.وكنت أتأمل حالة الانكسار التى سادت جيلى بعد 1967 والطفوله السياسية التى أديرت بها الدولة وعلاقاتها الخارجية بسطوة السطحية وداء الزعامة، وهى الحالة التى دخلنا فيها إلى الوظيفة الدبلوماسية، وحالة التردى واليأس وانحطاط الهمم واالأخلاقيات والانتهازية التى سادت الوسط الطارد لأمثالى ويفصل بين الحالتين قرابة 35 عاماً كاملة، ولم أفاجأ بأننى أدفع ضريبة العلم والوطنية بعد أن اتهمت فى هذا المناخ بمرض وبيل أسموه «الإفراط العلمى والأكاديمى» ومما يدعو للرثاء أن وزير الخارجية صاحب هذا العهد الذهبى أصدر قراراً بمنح خمسة جنيهات لمن يحصل على الدكتوراه فبدا كذبا كأنه يشجع على تحصيل العلم وسوف يأتى يوم نفيض فيه فى رسم الصورة الباكية لهذا العصر الأسود الذى برع وزراؤه فى خدمة مخطط رئيسهم المنبطح أمام إسرائيل والذى فى عهده أطفئت فيه أنوار مصر الداخلية والخارجية وعرفت عقدين على الأقل من الخمود الدبلوماسى المذل. وهكذا كانت ثورة 25 يناير 2011 رغبة شعبية عارمة فى إسقاط نظام أذل مصر وأتبعها لإرادة الكبير والصغير من الدول القريبة والبعيدة وأفقدها كل أوراق القوة وجعلها رجل المنطقة المريض. ولاشك أن مطالبة الثورة بالكرامة تعنى الحصول على الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والكرامة فى تعامل الدولة مع المواطن، والحفاظ على كرامة الوطن فى مواجهة سياسات الإخضاع والإذلال، والدفاع عن كرامة المواطن أينما كان فى خارج البلاد، مما يلقى على كاهل الحاكم الجديد مسئولية أولية وهى تحرير إرادة مصر وقرارها فى الخارج حتى يستقيم أمرها فى الداخل، وهذه هى عقدة العقد بالنسبة لمصر، ويكفى أن نشير إلى أن استقلال القرار فى السياسة الخارجية يمثل 80% من مجمل المصالح المصرية، ولكن كانت المشكلة دائماً هى كيف تحقق مصر استقلالها وقد احترقت أوراق القوة لديها فى الداخل، وتدخل إلى عالم جديد استقرت فيه دول فى المساحات التى تركتها مصر فى عصر الظلام دون أن تضطر إلى الاحتكاك بأحد وتجنب استفزاز الوسط الإقليمى الذى لا يشعر بالارتياح لظهور مصر الجديدة القوية الغنية المانحة وليست تلك الدولة التى تمتد يدها دائماً للتسول بينما حاكمها يفقرها وينهب ثرواتها. تحتاج مصر فى هذه المرحلة إلى ظهور قوى فى المجال الخارجى تتحدد فيه أولوياتها الداخلية والخارجية، لأن الدبلوماسية النشطة المدروسة التى تستدعى روح مصر التاريخية ووطنية أبنائها وقدراتها الهائلة هى أكبر سند لثورة 25 يناير، وليعكس الدرس الذى لقنته مصر بعد ثورة 1952 بكل تفاصيله ماثلاً أمامناً بلا موارية، فالمؤامرة حقيقية، ولكن الأكثر جلاء هو قصور الأداء والرؤية وتركيب السلطة الذى مكن لهذه المؤامرة. نحن فى عالم جديد آمالنا وقدراتنا وجسارتنا هى أسلحة بناء سياسة خارجية تليق بمصر الجديدة، أما إذا بدأنا بهذا القدر من التواضع والتردد والخطاب «التوافقى» فإن المؤامرة نافذه لا محالة. وربما هذا الحيز الضيق لا يسمح بالمزيد، وسوف نعالج التفاصيل فى دراسة موسعة، لكن يكفى أن نبرز ثلاث حقائق لا مفر من مواجهتها:الحقيقة الأولى هى أن لمصر معطيات جغرافية واقتصادية واستراتيجية واجتماعية ولا يمكن رسم معالم السياسة الخارجية وفق انطباعات أو أفق ضيق، لأن هذه المعطيات الموضوعية لا يمكن تطويعها بالهوى أو الجهل أو سوء التقدير. الحقيقة الثانية هى الحقيقة التاريخية وهى أن مصر تريد أن تكون لاعبا رئيسيا فى ساحاتها المفتوحة للمرة الثانية فى تاريخها المعاصر على أيدى مصرية عبر هذا التاريخ الطويل، فلابد من الاعتبار بتجربة عبد الناصر وزمانه وقيوده وأمراض السلطة فى زمنه. الحقيقة الثالثة هى أن سياسة التعايش مع المتآمرين مستحيلة لأن المؤامرة كالسرطان لا يشفى غليلها إلا الإطاحة بالروح والجسد، وقد عادت روح مصر الوثابة وعليها أن تستنهض كل قدرات القيادة والكفاءة عند كل قادر من أبنائها. وأخيراً أعتقد أن سياسة مصر الخارجية التى ترسمها مصر عام 1952 قد انتهت بهزيمة 1967 ومعها انطوت صفحة ثورة 1952، أى أن إسرائيل هى التى وضعت حدا لهذة الثورة فهل تضع إسرائيل أيضاً حداً لثورة يناير مع الفارق الحاسم بين الثورتين أم تستعيد إسرائيل الهيمنة على القرار المصرى بعد التخلص مما شكلته ثورة يناير من تهديد لهذه الحالة التى حافظ عليها مبارك لصالحها؟.