كان خبر انقلاب الجبهة الإسلامية السودانية وتسلمها حكم البلاد عام 1989 هو السر فى الدفع بعمر سليمان لموقع رئيس المخابرات العامة فى مصر وأمين عام مجلس الدفاع الوطنى لأكثر من عشرين عاما متواصلة، منها خمس عشرة سنة بعد سن الستين.. وكان حادث أديس أبابا وتمثيلية إنقاذه لمبارك وراء توليه موقع نائب رئيس الجمهورية سنة 1996 والذى سرعان ما اضطر مبارك لتجميده دون إلغاء تحت ضغوط عائلية. أما تداعيات الأحداث المتسارعة من جماهير ثورة 25 يناير فكانت وراء توليه منصب نائب رئيس الجمهورية للمرة الثانية، رأس عمر سليمان حكم مصر لمدة يوم واحد فقط، منذ ظهوره على الساحة ونجح فى إعادة ترتيب الأوراق داخل منظومة رجال الرئيس بما يدعم نفوذه الفعلى والواقعى على مجمل أروقة الدولة.. كان مشرفاً على كافة الجهات المعنية بالأمن السياسى الداخلى والخارجى فى مصر، وكانت وحدة تصفية الشهود الوحدة الأكثر خطورة ودموية داخل الجهات المعنية بالأمن السياسى تحت الإشراف المباشر لعمر سليمان.موت السيد عمر سليمان الفجائى والغامض، غيّر كل خطط تناول وقراءة هذا الكتاب الشائك والملغّم.. الكتاب عنوانه «حكايات الجوارح والمجاريح» من تأليف طارق المهدوى، وصادر عن الهيئة العامة للكتاب فى شهر أبريل الماضى والتاريخ هنا له دلالته سنعرفها بعد قليل، ويتضمن الكتاب سبعة فصول، أولها للرفيق إسماعيل المهدوى، وآخرها للرئيس عمر سليمان، وبينهما اللواء إبراهيم عزت والشاعر صلاح عبد الصبور والأكاديمى حامد ربيع والمحارب كارلوس.. والحقيقة أن الكتاب ما أن فرغت من قراءته، حتى أصابنى بحيرة شديدة وارتباك أشد، فطارق المهدوى هو الابن البكر للمثقف والمترجم الفذ العبقرى اليسارى وألمع العقول التى عرفها اليسار المصرى إسماعيل المهدوى - الجرح الغائر والدائم فى جسد الحركة الثقافية حتى اليوم - وقد انتظرت منه خاصة فى الفصل الذى حمل اسم الوالد أن أجد ما يزيل غموضاً أو يبدد جهلاً بكشف بعض الحقائق الجديدة أو التفاصيل المخفية، أو بتقديم تفسيرات مقبولة، تقلل أو تخفف من عنف هذه الدراما الإغريقية التى غلفت حياة إسماعيل المهدوى منذ بدايته وحتى النهاية، خاصة السبعة عشر عاما التى قضاها فى مستشفى الأمراض العقلية وما بعدها، ولكن هذا الفصل تحديداً جاء مرتبكاً وباهتاً.. ولهذا لجأت للاستعانة ببعض الأسماء والشخصيات الثقافية التى لها كثير من المحبة والمصداقية لتساعدنا وتعيننا فى استجلاء ما غمض عنا وهو كثير فى حكاية إسماعيل المهدوى، ولكنهم للأسف زاغوا وراوغوا جميعاً بلا استثناء، ثم رحت أخطط للاتصال بالمؤلف - الذى لم ألتقه ولا أعرفه - لأحاول معه سد ما بالكتاب من ثغرات وفجوات، وتفسير كثير من الكلام الملغز والرسائل المشفرة التى يبعثها لجهات وأشخاص بعينهم، حتى فاجأنا موت السيد عمر سليمان، فكان لا بد من إيقاف كل أنواع التخطيط، ونفض أى أفكار للتريث، والإمساك مرة أخرى بمتن الكتاب - حكايات الجوارح والمجاريح - وتحديدا الفصل الأخير الرئيس عمر سليمان، لنرى ماذا قال عنه طارق ونشره فى حياته ووجوده. وإذا كنا عرّفنا طارق من قبل بأنه الابن الأكبر لإسماعيل المهدوى وهذا قد يكون فيه الكفاية عند البعض، ولكن المهنية تقتضى ذكر أن طارق المهدوى ولد فى السجن فى أواخر الخمسينيات، وتخرج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية والتحق بالعمل فى الهيئة العامة للاستعلامات فى بداية الثمانينيات، هذه المعلومات نثرها طارق فى ثنايا صفحات الكتاب، وسنتوقف عند هذه المعلومة التى أوردها عن أهمية العمل فى الهئية العامة للاستعلامات، حيث قال نظراً لأن أهمية السرعة فى إبلاغ المعلومات للشخص أو الجهة المعنية بها لا تقل أهمية عن تحصيلها وفحصها وتدقيقها، فقد كان مسموحاً لرئيس هيئة الاستعلامات بالاتصال الهاتفى المباشر فى اى وقت مع رئيس الجمهورية، بل زيارته أيضاً لو أن ما لديه من معلومات يستدعى ذلك، وهو ما كان مسموحاً به لقيادات الهيئة مع وزير الإعلام. وندخل الآن إلى صلب حكاية طارق مع عمر سليمان، حيث يقول إنه ونتيجه لعلاقاته المهنية والشخصية المتشعبة، كان يجتمع ذات يوم مع بعض كوادر رفاق الحركة الشيوعية السودانية المحنكين فى القاهرة، وإذا براديو مونت كارلو يذيع خبراً عاجلاً يفيد بنجاح عدد من ضباط الجيش السودانى فى تولى حكم البلاد، بعد إطاحتهم بالحاكم المدنى الديمقراطى لتحالف حزبى الأمة والاتحاد وكان ذلك فى يونيو 1989،?فأبلغنى جلسائى الذين كانوا يعرفون جيداً هوية الضباط الانقلابيين بأنهم يميلون إلى الجبهة الإسلامية السودانية المعادية للدولة المصرية، وهى المعلومات التى أكدها لى فى حينها هاتفيا الزملاء المراسلون من الخرطوم للصحف والمجلات العربية والأجنبية فقمت بالتوجه الفورى إلى منزل رئيس الهيئة العامة للاستعلامات بحى الدقى نظراً لوقوع الانقلاب فى يوم الجمعة، وذلك لإبلاغه بما عندى من معلومات أراها ذات أهمية قصوى، ووافقنى رئيس الاستعلامات على تقديرى للموقف ثم أجرى اتصالا هاتفيا مع الرئيس حسنى مبارك فى حضورى وأبلغه بمعلوماتى عن الانقلاب السودانى. حدث هذا فى نفس الوقت الذى كان فيه مبارك يتلقى عدة تقارير عاجلة من الجهات المعنية بالشأن السودانى تفيده بأن هؤلاء الانقلابيين هم من أصدقاء مصر بالسودان، وأخذ مبارك بالمعلومات المطمئنة الأخرى، وقام بزيارة شخصية عاجلة إلى الخرطوم أعلن اعترافه بالانقلابيين ودعمه لحكمهم الجديد، وحدث بعد ذلك ما هو معروف من تصاعد تحرشات الجبهة الإسلامية بالمصالح المصرية على كافة الأصعدة المحلية والثنائية والإقليمية والعالمية، حتى وقعت مناوشات حدودية بين الجيشين وصلت إلى الاشتباكات المباشرة ولما ضاق صدر مبارك بالأمر كله أصدر قراراً بنقل رئيس جهاز المخابرات العامة وأبرز نوابه ومساعديه المتخصصين فى الشأن السودانى إلى مواقع خارج الجهاز وتعيين السيد عمر سليمان رئيسا جديدا لجهاز المخابرات نقلا من جهة أخرى مع منحه صلاحيات مطلقة فى الملف السودانى، وباعتبارى - والكلام مازال على لسان طارق المهدوى - صاحب المعلومات الصحيحة التى تم تكذيبها، فقد شملت قرارات مبارك تعيينى مستشارا إعلامياً للسفارة المصرية بالسودان، والتى أصبحت كغيرها من الوحدات المدنية التى تقع تحت إشراف عمر سليمان، الذى كان أول قرار اتخذه بموجب صلاحياته المطلقة الجديدة هو الاعتراض على تعيينى فى السودان بحجة ميولى الفكرية الماركسية، وهو القرار الذى أوقف مبارك تنفيذه مما أدخلنى فى تحد شخصى غير متكافئ مع سليمان.. وهكذا سافر طارق إلى السودان واستلم عمله الميدانى عام 1992 كمستشار إعلامى بالسفارة المصرية فى السودان، واستمر فى مهمته هذه خمس سنوات كاملة. ونستكمل فصول الحكاية التى مازالت على لسان طارق فيقول: إن من الملفات المهمة التى اضطلعت بها يأتى ملف كارلوس وملف أديس أبابا، فبعد أشهر قليلة من وصولى للخرطوم وصلها المحارب الأممى كارلوس بجواز سفر باسم دبلوماسى يمنى يدعى عبد الله بركات، وبمجرد إبلاغى للقاهرة بالخيوط هذه تم توجيهى نحو استمرار متابعتى اللصيقة به، وقد أبلغت القاهرة بالحقائق التى تؤكد أن كارلوس لا ينوى شراً بمصر ولا يشكل خطراً على المصالح المصرية، رغم حرص عمر سليمان على الادعاء ضده عند قادة بعض الدول الأجنبية والقيادة فى مصر، لدرجة أن سليمان قام عقب الإعلان عن القبض عن كارلوس وإيداعه السجون الفرنسية بإذاعة أحد شرائط الفيديو السابق إرسالها منى إليه، والتى تصور كارلوس خلال حفلة ترفيهية بالنادى القبطى فى الخرطوم، يمنح بذلك مبارك فرصة للتباهى بأن أجهزته تعلم كل شىء فى كافة الأماكن، مما أعطاه جرعة استثنائية من المصداقية لدى قادة بعض الدول الأجنبية الذين كانوا يشعرون بالحرج أمام شعوبهم بسبب استشراء الفساد والاستبداد داخل أروقة الدولة المصرية، وقد رد مبارك هذا الجميل لسليمان بالتجديد له فى موقع رئيس المخابرات لمدة عام آخر بعد بلوغه سن التقاعد عام 1995.. أما الملف الثانى هو أديس أبابا، فيكشف طارق المهدوى فيه الكثير من الأسرار الخطيرة، ولنقرأ بخط يده ما يقول: نشأ فى الخرطوم مكتب فنى سرى لدعم الحركات الإسلامية اسماه معارضوه «عصابة الأربعين حرامى» لضمه عدد أربعين عضواً يمثلون أبرز التنظيمات الإسلامية الجهادية العنيفة التى تستخدم الاغتيالات والتفجيرات كوسائل للوصول إلى حكم بلدانها، وكانوا يجتمعون سنويا ومن ضمنهم الأعضاء المصريون تحت إشراف كبار مسئولى الجبهة الإسلامية وأجهزة الأمن السياسى السودانى داخل مقر هيئة الصداقة الشعبية العالمية المجاور للقصر الجمهورى على ضفاف نهر النيل فى الخرطوم، ولأن مصادرى كانت هناك فقد تمت موافاتى بالتوصيات الختامية لاجتماع مكتب الأربعين فى عام 1994 والتى تضمنت توصية تحوى عدة سيناريوهات لاغتيال الرئيس حسنى مبارك، ومن بينها سيناريو الهجوم المسلح على سيارته عقب مغادرتها مطار العاصمة الأثيوبية أديس أبابا خلال زيارته المرتقبة فى العام التالى، وحسب نص التوصية فإن الاغتيال ستنفذه مجموعات انتحارية تابعة لبعض التنظيمات الإسلامية الجهادية المصرية بدعم وتغطية كاملين من عناصر الأمن السياسى السودانى، وقد تم رفع الأمر منى بشكل فورى عبر القنوات لتنتهى مباشرة إلى حوزة السيد عمر سليمان، الذى كان يفترض أن يتخذ الاحتياطات الأمنية الواجبة، بما فيها إلغاء زيارة مبارك وتكليف أحد كبار المسئولين بالحضور بدلا منه أو تغيير موقع هبوط الطائرة وخط سيره الأرضى، إلا أن عمر سليمان أبقى على برنامج الزيارة كما هو، مع قيامه ببعض الأفعال الاستعراضية المكشوفة مثل استبدال سيارة المراسم الأثيوبية بأخرى مصفحة جلبها خصيصا من القاهرة ليركبها بجوار الرئيس على غير مقتضى البروتوكول حتى يكون جسده هو خط الدفاع الأخير عنه كما قال له، ونجا مبارك ليكافئ سليمان على أفعاله الاستعراضية بقرار تعيينه نائبا لرئيس الجمهورية عام 1996 وهو القرار الذى سرعان ما اضطر مبارك لتجميده دون إلغاء تحت ضغط عائلى كبير.