المعتدلون والوسطيون والذين حلموا بثورة رشيدة وبعض من الذين مازالوا يؤمنون بالقومية العربية والهوية الإسلامية الوسطية لمصر، هم أكثر الناس عذابا فى مصر الآن. هم أغلبية المصريين، هم هؤلاء الذين تصادفهم فى أماكن العمل نهارا أو على المقاهى فى المساء وفى الشوارع فى وسائل المواصلات العامة، من الطبقة المتوسطة ودون المتوسطة وفوق المتوسطة إلا قليلا، وذنبهم أنهم تعلموا وفهموا وتعذبوا بعلمهم وفهمهم لسنوات خلت حكمنا فيها قانون غائب وضمائر معطلة وفساد قائم، وجاءت الثورة ليروا فيها ونرى معهم إشارة من السماء تؤذن ببزوغ فجر جديد يمحى حالك السواد الذى غطى وجه الحياة، لكن الفجر الذى ننتظره تحول إلى فجر كاذب تسكنه الشياطين وصارت تفرض عليهم اختيارات مشيطنة بفعل فاعل.(1) المسيح ابتهل إلى الله راجيا ألا يضعه فى اختبار والحكمة الشعبية تقول من تريد أن تحيره خيّره، ونحن نجد أنفسنا منذ شهور وبعد أيام قليلة من الفرح الثورى فى اختبارات واختيارات صعبة بين أمور أحلاها فى مرارة العلقم. على سبيل المثال وليس الحصر وفى الأيام القليلة الأخيرة كان على المصريين أن يختاروا بين قبول نتيجة الجولة الأولى للانتخابات أو رفضها والسير خلف المرشحين الذين خرجوا من السباق، كان الاختبار هو القبول بخيار الديمقراطية وآلية صندوق الانتخابات أو رفضه والانقلاب عليه فى أول اختبار بهذه الصعوبة فى تاريخ مصر الحديث، ولم تمض أيام أو ساعات قليلة حتى وجد هؤلاء المعذبون أنفسهم فى اختبار آخر وهو قبول حكم المحكمة الصادر بحق الرئيس المخلوع مبارك وأعوانه وابنيه أو رفضه والانقلاب عليه ووصم القضاء المصرى بما سمعناه وعرفناه، وماكدنا نهدأ حتى دخلنا فى دوامة وجدلية دستورية قانونى مباشرة الحقوق السياسية التى جرت على أساسها انتخابات مجلسى الشعب والشورى والعزل السياسى، وأخيرا ولن يكون آخرا سوف يتوجب على المعذبين أن يتوجهوا إلى صندوق الانتخابات هذا الأسبوع ويختاروا رئيسا لهم يحكمهم لسنوات أربع أو خمس قادمة (حسبما يقرر الدستور القادم) من بين مرشحين تمت شيطنتهما إلى حد أنه صار فى أذهان البعض أن نجاح هذا المرشح أو ذاك يعنى دخول مصر مرحلة الجحيم بعينه! (2) ليس الأعداء التاريخيون للإسلاميين فقط هم الخائفين ووصف الخوف هنا ليس فيه أية مبالغة، أقول ليس هؤلاء فقط الذين يخشون وصول د. محمد مرسى مرشح الإخوان لمنصب رئاسة مصر فهناك أيضا أعداء جدد للإخوان تحديدا انضموا إلى هذا الفريق بتأثير دعاية تحريضية سوداء تم توجيهها لتشويه الإخوان وتسويد وجه التجربة البرلمانية المنسوبة بالكامل للتيار الإسلامى ، وفى هذه الهجمة تم استدعاء خطاب الكراهية الذى أسسته وأطلقته الأنظمة السابقة منذ ما بعد ثورة 23 يوليو 1952 وحتى أدبيات نظام الرئيس المخلوع، ووجد كثير من المصريين الذين لم يحضر الإخوان فى أذهانهم بهذه الصورة الشيطانية أنفسهم يتوجسون خيفة من هؤلاء القادمين إلى الحكم الذين سوف يحولون نهارهم إلى ليل وليلهم إلى كوابيس وخوف حين يفرضون عليهم الشريعة فيقطعون أطرافهم ويمنعون ما يسرّى عنهم من إبداع ويفصلهم عن الزمن والمكان ويعودون بهم إلى عصور الظلام والجهل هذا على المستوى الاجتماعى وعلى المستوى السياسى، فقد صورت الدعاية أن الإخوان - لا محال – سوف يقودون البلاد إلى مواجهات عنيفة سوف تدخل مصر فى حرب ليس ضد إسرائيل ولكن ضد الغرب كله فإذا لم يحدث هذا. فعلى الأقل سوف يعزلون مصر عن هذا المحيط العالمى ويتوجهون بها إلى محيط إقليمى مرفوض وتحالفات مع دول مرفوضة شعبيا مثل قطر أو إيران.. ناهيك عن أن الإخوان جماعة طائفية معزولة فى داخلها سوف توزع المزايا والمناصب والرئاسات والفرص الاقتصادية على أعضائها دون بقية الشعب المصرى.. ما صحة هذه الاتهامات والأقاويل على أرض الواقع؟ لقد ترك إعلام الإخوان فراغا زاد منه غياب حركتهم الإيجابية على الأرض هذا الفراغ الذى سمح للدعاية المشوهة أن تتمدد وتترسخ فى أذهان المصريين الذين كانت أذهانهم خالية من قبل من مثل هذه التشوهات نحو الجماعة. (3) الاختيار الثانى الذى يتعذب به المشوشة أذهانهم هو المرشح أحمد شفيق الذى نجحت الدعاية المضادة له فى حصره فى ركن أعداء الثورة إلى الدرجة التى صار فيها منافسه (د.مرسى) هو المرشح الثورى، وبالتالى أصبح شفيق عنوانا لإعادة إنتاج النظام السابق بكل مآسيه ورجاله الذين أفسدوا حياة المصريين بداية من كوادر الإعلام الدعائى وحتى رجال الأعمال الفاسدين وأصحاب المصالح، ليس هذا فقط ولكن أيضا أدخلوا شفيق فى صفقات لتصفية الخصوم وسحل الثوار وهو ما يمكن أن يؤدى إلى جر مصر إلى ثورة جديدة.. والسؤال هنا أيضا ما صحة هذه الاتهامات على إطلاقها؟ لا أحد يستطيع أن يعطينا إجابة شافية وكثيرون من الذين يرددون مثل هذا لا يقبلون أية مناقشة قائمة على منطق أو الاحتكام للحقائق المجردة. (4) الخلاصة أن حزب المعذبين- وأنا واحد منهم- ترسخت لديه عقيدة أن عليه أن يختار ما بين عذابين، أوصلنا إلى هذا الاعتقاد الحرب غير المعقلنة والاستقطاب فى حده الأقصى الذى جرتنا إليه القوى السياسية بعد الثورة، ومحاولات الأبطال المزيفين لسرقة المشهد بالسباب والشتيمة وإهالة التراب على الخصوم، وزاد من تسميم الأجواء دفع من لهم مصلحة فى إشاعة الفرقة وشيطنة المصريين للوصول بهم لحالة الفوضى. هناك أيضا بعض الأقاويل غير المحسوبة من كلا المرشحين اللذين لا نبرئهما تماما من منح خصومهما الفرصة لاصطيادهما وتحويل أخطائهما القولية إلى خطايا. هذا ما أوصلنا إلى لحظة الأزمة الراهنة.. لحظة صعوبة الاختيار وتفضيل البعض لاتخاذ قرار العزوف عن المشاركة فى الجولة الحالية من الانتخابات التى سوف تنطلق مع صدور هذا العدد من مجلة أكتوبر 16/6، أو الذهاب وإبطال الصوت الانتخابى، وهو ما لاننصح به، بل ندعو المصريين جميعا أن يذهبوا ويدلوا بأصواتهم لأن هذا معناه الإصرار على الديمقراطية وإيصال رسالة للرئيس القادم أننا قررنا أن نختار وأن الشعب سوف يتحكم فى مصيرك أيها الرئيس حين تترشح لفترة رئاسية ثانية. وأخيرا فإن نجاح د. مرسى أو الفريق شفيق لا يعنى أن القيامة سوف تقوم غدا، فقط علينا أن نتمسك بثقتنا فى أنفسنا، ونتأكد تماماً أننا قادرون على مقاومة الظلم والظالمين، وأننا قادرون على التغيير حتى آخر نبضة فى عروقنا. وقد تكون هذه الرسالة قد تأخرت قليلا لكنى أعتقد أنها صالحة لليوم وغدا فانتخابات الرئاسة لن تكون الاختيار الديمقراطى الأخير فى حياتنا.