الثبات الانفعالى ... مصطلح ارتبط دوماً، فى أذهان الناس، بلعبة الجاسوسية والمخابرات، وصار العديدون يرددًَّونه، دون أن يستوعب معظمهم معناه بالضبط، ولقد أدركت معناه العملى، خلال أكثر من عشرين عاماً، تعاملت فيها مع رجال مخابرات محترفين، دون أن ألتقى برجل واحد منهم، يمكن استفزازه أو إثارة غضبه، أو دفعه إلى القيام برد فعل غير مدروس ... وهذا يمكن أن يوضح ما يعنيه مصطلح (الثبات الانفعالى) ... فالمصطلح يعنى، باختصار، القدرة على السيطرة على الانفعالات البشرية، مهما كانت الضغوط والمؤثرًَّات، ومهما كان الموقف، أو بلغت صعوباته وتعقيداته، والقدرة على ضبط تردًَّد العقل، على إيقاع واحد، تحت أحلك الظروف، بحيث يكون قادراً، فى كل الأحوال، على اتخاذ القرار السليم، فى الوقت السليم، دون التأثر بمجريات الأمور القادرة على تشتيت أى عقل ... وبلوغ هذه المرحلة، من الثبات الانفعالى، ليس بالأمر السهل، وليس بالأمر الذى نرثه، أو نولد به، فهو ليس نوعاً من تبًَّلد المشاعر، وإنما هى قدرة مكتسبة، على فصل المشاعر عن العقل، فى اللحظات التى يحتاج المرء فيها إلى قرارات عملية، قد تؤثر فى مجرى الأمور من حوله، أو فى مستقبل وطنه كله، فى بعض الأحيان ... والتدريبات اللازمة، للوصول إلى حالة الثبات الانفعالى، كثيرة، وتحتاج إلى صبر وحكمة، وربما واجه بعض من تقدًَّموا لاختبارات القبول، فى مؤسسات عسكرية، أو فى هيئة الشرطة، ذلك الاختبار الخاص بالثبات الانفعالى، عندما يسعى مختبروه لاستفزازه، ودراسة ردود أفعاله، تحت هذا المؤثر المباشر... فالشخص لحظتها، إما أن يفقد أعصابه، أمام هذا الاستفزاز، أو يتماسك، ويعبر الاختبار بسلام ... أما بالنسبة لرجل المخابرات، فهذا الاختبار الأولى يعد مجرًَّد بداية فحسب، إذ أنه، وفور التحاقه بجهاز المخابرات – أى جهاز مخابرات – يبدأ فى التدرًَُّب عملياً، على اكتساب حالة مرتفعة من الثبات الانفعالى، تؤهله لمواجهة ظروف بالغة الحساسية والخطورة، وعلى نحو مباغت، دون استعداد مسبق لها؛ إذ أن رجل المخابرات المحترف معرًَّض دوماً لمواجهات غير متوقعة، وتطورات غير محسوبة، ولابد له من أن يمتلك القدرة على مواجهتها مباشرة، ودون إضاعة الفرصة... والتدريب على الثبات الانفعالى لا يتم دوماً على نحو مباشر، وإنما من خلال برنامج تراكمى مدروس، يمر به رجل المخابرات خطوة بخطوة، وأحياناً دون أن يدرك أنه يمر بجزء من أهم تدريباته ... فهو، فى أثناء فترة التدريب الأولى، قد يواصل التدريب حتى ساعة متأخرة للغاية، حتى يشعر بإرهاق شديد، وعندما يغفو قليلاً، يتم إيقاظه بعد ساعة أو ساعتين، وعليه فور استيقاظه، أن يواجه مشكلة ما، ويوجد لها الحلول العملية، فى سرعة مناسبة... هذا لكى يعتاد عقله سرعة الاستيقاظ، تحت أيه ظروف، وتحت أيه ضغوط ... وفى البداية لا يكون هذا سهلاً، ويكون على العقل ان يبذل جهداً شديداً؛ لكى يمكنه الاستيقاظ، والعمل بكفاءة، فى ظل هذا الموقف، ولكن مع مرور الوقت، يعتاد العقل هذا، وتهدأ الانفعالات المصاحبة له، وتبدأ أولى خطوات الثبات الانفعالى، وبعدها يتم طلب مشروع ما، مثل رسم طوبوغرافى للمنطقة المحيطة بمركز التدريب، ويكون على المتدرًَُّب قضاء الليل كله فى رسم المشروع، وعند الانتهاء منه، فى الصباح الباكر، يتم تقديمه إلى المشرف، الذى يقوم بتمزيقه، دون حتى الاطلاع عليه، ويطلب إعادته مرة أخرى ....لو حدث هذا مع أى شخص عادى، لتملكه الغضب، وثار على المشرف، وربما رفض إعادة المشروع مرة أخرى، ولكن فى حالة الثبات الانفعالى، يواجه رجل المخابرات الأمر فى هدوء، ويبدأ فى إعادة المشروع ... هذا بالطبع عندما يصبح مؤهلاً لحالة الثبات الانفعالى، التى يكتسبها مع مرور الوقت، وتصبح جزءاً من شخصيته، وسمة من سماته، فلا يعود من السهل استفزازه، أو إفقاده أعصابه، مهما كانت المؤثرات .... الثبات الانفعالى سمة حتمية، لكل رجل مخابرات محترف؛ إذ أن عمليات المخابرات، مهما بلغت دقة إعدادها وتنظيمها، يمكن أن تواجه تطوًَّرات مفاجئة، أو مصادفات مباغتة، تضطر ضابط المخابرات إلى الخروج عن الخطة الأساسية، أو العمل على تعديل مسارها؛ لتتفق مع المتغيًَّرات، ولو أن رجل المخابرات ارتبك، أو اضطرب، أو فقد قدرته على التحكًَّم فى انفعالاته، تحت وطأة المفاجاة، لانهارت العملية برمتها، وقد ينهار معها خط دفاعى كبير، فى الأمن القومى لوطن بأكمله ... ثم إنه من المحتمل أن يسقط رجل المخابرات، تحت أى ظروف، فى قبضة العدو، وعندئذ سيكون عليه استنفار ثباته الانفعالى إلى أقصى حد، حتى يمكنه مواجهة العدو، والحفاظ على أسرار وطنه، وعدم كشف طبيعة مهمته فى الوقت نفسه، خاصة أنه سيواجه محترفين أيضاً، يجيدون سبل الاستجواب واستخلاص المعلومات، وربما يلجأون إلى وسائل كيماوية، مثل عقار (بنتوثال الصوديوم)، الذى يطلق عليه اسم (مصل الحقيقة)، والذى من سماته أنه يضع العقل البشرى فى حالة من نصف الوعى، يعجز معها عن ترتيب أفكاره، أو كتمان حقائق أساسية لمهمته، أو إلى وسائل إلكترونية، مثل جهاز كشف الكذب، الذى هو عبارة عن جهاز متعدًَّد النتائج، يقيس معدًَّلات النبض، والتنفس، وإفرازات العرق، باعتبار أن الكذب يزيد كل منها، على نحو يمكن معه لأى محترف، أن يكشف ما إذا كان المستجوب يذكر الحقيقة، أم أنه يروى حقيقة مختلقة؛ للتغطية على الحقيقة الأساسية ... والتدريب الطويل على الثبات الانفعالى، يجعل رجل المخابرات المحترف، والذى يخوض مواجهات مباشرة، قادراً على التحكًَّم فى أعصابه، إلى درجة يعجز معها جهاز كشف الكذب عن إدراك حقيقة روايته، أما عقار (بنتوثال الصوديوم)، فيمكن إلغاء تأثيره، عبر سلسلة من التعامل بجرعات صغيرة منه، عبر مسار عمل رجل المخابرات ... والحديث عن تقنيات الاستجواب، فى عالم الجاسوسية، يقود حتماً إلى الحديث عن تاريخ تقنية التجسّس .. ولهذا حديث آخر... قادم.