لم يكن «يجئال عامير» الذى أطلق الرصاص على ظهر رئيس الوزراء الإسرائيلى الراحل «إسحاق رابين» فى 4 نوفمبر 1995، سوى رسول أما الراسل فيكمن فى الكلمات التى صيغت قبل ذلك بسنوات طوال وبالتحديد فى شهر مايو 1984. كان هذا ما كتبه الأديب العربى الإسرائيلى «سلمان مصالحة» بصحيفة هآرتس فى الذكرى السادسة عشرة لاغتيال رابين. ويضيف مصالحة: صحيح أن وثيقة «الاستقلال» وقيام الدولة وعدت بأن «تحافظ إسرائيل على المساواة فى الحقوق الاجتماعية والسياسية لكل مواطنيها»، لكن هذه الكلمات كانت لمجرد تشنيف آذان العالم ليس إلا. لأن وثيقة الاستقلال تركزت أساسا حول إقامة «دولة يهودية فى أرض إسرائيل» و«شعب يهودى» و«شكل دينى وروحانى» و«وطن قديم»، ومثل هذه المصطلحات لم تكن توجد بالأساس إلا فى إطار دينى، فالوطن القديم يرتبط باليهودية والديانة القديمة، ولذلك لم تنفصم العلاقة بين الصهيونية وبين الدين اليهودى. ولم تكن صدفة ألا يرد اسم إسرائيل ضمن كلمات النشيد الوطنى، فالنشيد الوطنى الإسرائيلى الذى يحمل اسم «الأمل هاتيكفاه» يذكر الصلاة اليهودية التى تناجى عن بعد سواء فى الزمان أو فى المكان: «نفس يهودية هائمة.. الأمل من ألفى عام.. أرض صهيون والقدس».. وبتبنى مثل هذه الصياغات حوَّل قادة الصهيونية دولة إسرائيل من يوم قيامها إلى دولة للشريعة اليهودية. فالصهيونية التى تطلعت إلى إقامة «بيت يهودى» فى «وطن قديم» لم تضع فى حساباتها أن الأرض «ليست خالية»، ولذلك تبنت مبدأ الترانسفير فى الوقت الذى تستند فيه إلى نفس الميراث التوراتى القديم، وهذا ما كشف عنه الشاعر الإسرائيلى «حاييم جورى» من واقع ما وجده على طاولة بن جوريون، وذلك فى محاضرة ألقاها فى كلية الأمن القومى (مجلة «معراخوت» العدد 359). وبن جوريون عارض بشدة آنذاك احتلال كل مناطق ما يسمى ب «أرض إسرائيل» لكن معارضته هذه كانت تكتيكية ولأسباب ديموغرافية فقط. يحكى جورى أنه فى أوائل ربيع 1949 سألت بن جوريون لماذا لم تقم باحتلال كل أرض إسرائيل فكانت إجابته بأن «التورط داخل نطاق عربى معادى كان سيضعنا أمام خيار لا قبل لنا به: إما أن نطرد مئات الآلاف من العرب أو أن نقبلهم فى داخلنا، وهم كانوا سيهدمون هذه الدولة الصغيرة من الداخل». بن جوريون إذن ترك احتلال باقى المناطق للمستقبل عندما قال:«لقد قمنا باحتلال منطقة أكبر بكثير من تلك التى حددتها لنا خريطة التقسيم»، ثم أضاف: أمامنا عمل ضخم لجيلين أو ثلاثة وبعد ذلك سوف نرى فالتاريخ لم يتوقف بعد. وبالفعل لم يتوقف التاريخ، فبعد ما يقرب من عقدين اندلعت حرب يونيو 1967 التى لم تؤد فقط إلى احتلال «ظهر الجبل» وتوسيع «الخاصرتين الضيقتين» ولكن أيضاً رعت بذور مشكلة «العلاقة التاريخية» مع مناطق «الوطن القديم» وهى العلاقة المليئة بالأساطير التوراتية. ورابين رئيس الأركان الإسرائيلى فى تلك الحرب أدرك متأخرا جدا مغزى الخيار «الذى لا قبل لهم به»، وهو التطرف اليهودى المتطلع لإعادة المد الدينى والشوفينية القومية، والذى ضرب جذوره فى المستوطنات وفى المجتمع الإسرائيلى كله. وما كان يقال ضد الخطوات والإجراءات التى أقدم عليها رابين هو أنه «لا يوجد له أغلبية يهودية»، ذلك لأنه اعتمد على تأييد ودعم أعضاء كنيست من خارج القبيلة اليهودية، لقد حاول رابين إنقاذ «الدولة اليهودية» من الخيار إياه عن طريق تبنى «الإسرائيلية» التى تضم أيضاً المواطنين العرب، لكن خطواته وإجراءاته جاءت متأخرة كثيرا، ذلك لأن «العفريت اليهودى» كان قد خرج من القمقم. هكذا تكونت الشرنقة اليهودية فى الروح الهائمة.. وهكذا تم أيضاً قتل رابين على خلفية ما يسمى ب «الدولة اليهودية».