أجهزة المخابرات لا تعرف المفهوم الانتقامى؛ لأنه ليس موجوداً فى قاموسها؛ باعتبار أن عملها كله يعتمد على العقل والحكمة والتروًَّى، وحساب كل خطوة، ولأن الانتقام سلاح ذو حدين، وإذا مابدأت لعبته، فهى تبدو أشبه بالثأر، الذى يستمر لسنوات، فينشغل به جهاز المخابرات، عن واجباته الفعلية، ولكن هذا لا يمنع حدوث عمليات انتقامية عنيفة، فى عالم المخابرات... ولدينا رواية حديثة نسبياً. ففى عام 1972م، وأثناء انعقاد الدورة الأوليمبية فى مدينة (ميونخ) الألمانية، وبعد رفض مسئولى الدورة اشتراك رياضيين فلسطنيين؛ باعتبار أن فلسطين لم تكن دولة رسمية فى ذلك الحين، قررًَّت منظمة أيلول الأسود، القيام بعملية لافته، ذات تأثير متفجًَّر؛ بهدف جذب الأنظار إلى القضية الفلسطينية، فقامت مجموعة فدائية، بقيادة (محمد داوود عودة)، المعروف باسم (أبو داوود)، بالتسلًَّل إلى مقر الدورة، ولقد ساعدتهم المصادفة البجتة على هذا، عندما وصل بعض الأمريكيين السكارى، وبدأوا فى تسلق الأسوار، وبعدها اقتحمت المجموعة مقر البعثة الرياضية الإسرائيلية، واحتجزت أحدى عشر رياضياً إسرائيلياً، قتل منهم رياضى ومدرًَّب حاولا المقاومة، وطالبت المجموعة الفدائية بالإفراج عن مائتى أسير فلسطينى، من المعتقلين فى السجون الإسرائيلية، من بينهم (ريما عيسى)، و(نيريز هلسا)، اللتين تم أسرهما، إثر عملية مطار اللد، فى مايو العام نفسه، والفدائى اليابانى (أوكاموتو)، والضباط السوريين الخمسة، الذين أسرتهم (إسرائيل)، مع ضابط لبنانى، فى يونيو من نفس العام، مع تأمين نقلهم إلى أية دولة عربية، ولقد حاصرت الشرطة الألمانية المكان، وأبلغت السلطات الإسرائيلية، التى أرسلت مسئولاً كبيراً من (الموساد)؛ لإعداد كمين إطلاق سراح الرهائن، حتى لو أدى هذا إلى مقتلهم، كما صرحت آنذاك، رئيسة الوزراء الإسرائيلية (جولدا مائير) امام الكنيسيت ... ولقد طالب الفدائيون بطائرة تنقلهم مع رهائنهم إلى (القاهرة)، وتم تنفيذ مطلبهم ظاهرياً، حيث وصلت طائرتا هليوكوبتر، حملتا الفدائيين ورهائنهم إلى مطار (فورشينفليد بروك) الحربى، حيث كان الكمين فى انتظارهم، وهناك أضيئت الأضواء الكاشفة، وأطلق القنًَّاصة الألمان النار على الفدائيين، الذين جاوبوهم بالمثل، وأطلقوا النار على المصابيح الكاشفة، حتى ساد الظلام، وتواصل إطلاق النار لثلاث ساعات كاملة، تم خلالها قتل ضابط ألمانى، وطيار إحدى المروحتين، وتفجير المروحية نفسها، وقام الفدائيون بقتل الفريق الرياضى الإسرائيلى كله، وقتل خمسة من أصل ثمانية، من الفدائيين الفلسطينيين، وألقى القبض على المتبقين الثلاثة، ولكن مجموعة فدائية أخرى اختطفت إحدى طائرات (لوفتهانزا)، كانت متوجهة من (بيروت) إلى (ألمانيا)، مما أجبر السلطات الألمانية على إطلاق سراح الفدائيين الثلاثة، فى التاسع والعشرين من أكتوبر 1972م .. وهنا أعلن (الموساد) أنه سيقوم بالانتقام من جميع مخططى ومنسقى، ومن تبقى من منفذى العملية وعائلاتهم، حتى ولو استغرق هذا سنوات ... وكانت أضخم وأغرب عملية انتقامية مخابراتية فى التاريخ، إذ خطًَّط (الموساد) ونفذ عدداَ من عمليات الاغتيال الانتقامية، لعدد من الأفراد، قيل إنهم المسئولون عن عملية (ميونخ)، مما وضع خطاً جديداً، تحت كلمة (الانتقام)، فى القاموس التخابرى ...ولو أننا أدرجنا تنفيذ الاغتيالات، تحت بند العمليات الانتقامية، فسنجد أن المخابرات السوفيتية السابقة، تحتل موقع الصدارة فى هذا الشأن، فعقب الثورة البلشيفية، وحتى نهايات الثمانينات، نجح العديد من المنشقين عن النظام الشيوعى، فى الفرار من الاتحاد السوفيتى، بطرق مختلفة، وأصرًَّت المخابرات السوفيتية على ألا يهنأ لهم عيش، حيثما ذهبوا، فأنشأت قسماً خاصاً، لتنفيذ عمليات الاغتيال، على عدد كبير من المنشقين، عبر كل دول (أوروبا)، وعلى رأسها (انجلترا)، التى استضافت القسم الأعظم منهم، ومنحتهم- وفقاً لدستورها- حق الإقامة فى بلدها، ولقد بدأ هذا القسم، فور انشائه، فى حصر أعداد المنشقين السوفيت، وتحديد مواقعهم، وابتكار وسائل اغتيال جديدة وفعًَّالة وسريعة، بحيث تتم العمليات فى سرعة ودقة، ولقد ظلت أوروبا لسنوات طويلة، مسرح عمليات الانتقام المخابراتى السوفيتى من المنشقين، ومعمل تجارب وسائل الاغتيال المبتكرة، ومن أشهر العمليات والابتكارات، عملية اغتيال كاتب سوفيتى منشق، فى أكبر ميادين العاصمة البريطانية، حيث اقترب منه قاتل محترف. و ... لهذا رواية أخرى.