تلتف أصابعى حول الذراع المعدنية ثم تثب قدمى بقوة وكأن فيلاً سيصعد القطار، أحسست فجأة قبل أن أرفع قدمى الأخرى من على رصيف المحطة بكفين غليظين يعتمدان على ظهرى ويدفعانى بقوة إلى الأمام فانحشرت بين جموع الناس منكفئاً على وجهى، وبقدرة قادر تسربت كل الروائح إلى أنفى.. رائحة سجائر، عرق وروائح أخرى كريهة أقرف لذكرها. أخذت أجدف بيدى بين خضم اللحم البشرى المتلاصق حتى استطعت بصعوبة أن أعود لأشم الهواء مرة أخرى. لا يزال الرجل الذى دفعنى فى نفس وضعى منذ لحظات ولكن يا لسوء حظه فقد تحرك القطار و نصف جسمه خارجه. بذلنا مجهوداً خرافياً فى سحبه حتى دخل آخر ظفر من قدمه، وأقول آخر ظفر لأننا حينها لم نجد فى قدمه حذاء، فضلاً عن أن جوربه كان ممزقاً بحرفية بالغة! توقفت فى مدخل العربة دون خطوة أخرى.. جميع الناس راقدين على مقاعدهم البعض يقفون مثلى فى الممر الضيق والآخرون تربعوا على الأرض أو تمددوا، ولم يعد لدى أى أمل فى الحصول على مقعد خال. (اقرأ الحوادث.. فضايح الستات وبلاوى الستات) يدفعنى بائع الجرائد بقوة كادت تلقينى أرضاً ومن قبله بائع سندويتشات الفول، إلى أن جاء البطل الذى يحمل القفة فوق رأسه يقف أمامى متحدياً وبصرخة جمدتنى:(أى حاجة ساقعة بجنيه) يضع قفته عند قدمى ويقف منتظراً الرجل الذى بجانبى لحين مايفرغ من زجاجته.. أحسست أننى لم أغب لحظة عن عينيه المنتفختين المارقتين من قسمات الوجه المربع الغليظ.. يضع إبهامه مكان أحد أزرار جلبابه البلدى المتهالك.. كل ثانيتين يأخذ شهيقاً عميقاً يزفره فى وجهى بحنق وينقبض كرشه وينتفخ وينقبض مع حركة جسمه المتأرجحة إلى الأمام وإلى الخلف، حتى أصابنى بالتوتر الشديد والقلق. وأخيراً مع المفرقعات الهوائية تهبط الزجاجة من على فم الرجل لتلقى بجانب أخواتها فى القفة. لا تقلق يا يوسف طمئن سعاد إننى فى الطريق.. كلا لقد ركبت قطار العاشرة المميز.. ما بك يا يوسف إنه مميز.. مميز ألا تفهم؟! ما به ينتفض هكذا؟! ربما لأن القطار معاده العاشرة فأتى الواحدة؟! إذن ماذا لو رأى كل المميزات التى أنا فيها؟!.. كراسى حديدية صدئة وأرفف ينام عليها الناس بدلاً من الحقائب. الميزة الحقيقية وجدتها فى الرجل صاحب الجلباب البلدى الذى استرخى فى مقعده وأغمض عينيه.. وفجأة سكنت كل أعضائه إلا عضو واحد ظل يعمل فى دأب بلا توقف، حيث ارتفعت سبابته تنحشر فى أنفه وظلت تدور وتعمل بلا كلل. الغريب أيضاً بعد ذلك تبعه الرجل الذى بجانبى والمرأة العجوز وكأنها حمى وانتشرت فى العربة كلها.. كل الأصابع انحشرت فى كل الأنوف.. أنا أيضاً بدأت أشعر بالرغبة فى ذلك! (لب سوبر بجنيه) مرت ساعتان كنت حينها ممسكاً بقرطاس اللب متربعاً على الأرض التى امتلأت بالقشور والبصاق.. يعبر من فوقى بائع الجرائد فيطبع قدمه على البنطلون الأسود.. ويصب لى الرجل الشاى على القميص الأبيض. آه.. منك لله يا حضرة المدير.. وأخيراً وصلت بعد صراع فى الأتوبيس وخناقة فى التاكسى إلى مبنى ياسمين للكوافير.. ولحسن حظى أن تكون سعاد أول من يستقبلنى فى فستانها الأبيض وهى تحيطنى بنظرة من حذائى المترب وشعرى المشعث.. وبدون كلمة اقتربت منى، بعينين مدهوشيتن وكفين ممدودتين.. إلى قرطاس اللب الذى فى يدى! محمد علام محمد بنى سويف مواليد 1992