إذا نظرت إلى السماء.. وقلبك مفتوح وذراعك، وقلت: ساعدنى على ضعفى وغرورى.. اجعل نهايتى أفضل من بدايتى.. وعمرى القصير أبديا فى جنتك يارب إذا فعلت هذا فأنت أسعد الناس لأنه لا شىء يهدىء القلب وينعش العقل ويريح الضمير مثل هذا الإيمان. بهذا الدعاء الصوفى اختتم العملاق الأستاذ أنيس منصور عموده اليومى «مواقف» قبل وفاته بأيام وهو يودع رحلته فى الدنيا إلى رحلته فى الحياة الأبدية. رحم الله هذا العملاق الساكن فى قلوبنا نحن أبناءه وتلاميذه.. والساكن أيضاً فى قلوب وعقول قرائه من البسطاء والمثقفين فى مصر والعالم العربى. سوف يظل الراحل العملاق متربعا فى قلوب الملايين من عشاق فكره وفلسفته وأدبه الصحفى - سوف يظل على مر السنين والأحقاب عملاقاً أديبا وصحفيا إلى جوار العمالقة العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ.. ولسوف تظل الأجيال المتلاحقة تهفو إلى قراءة إبداعاته الفكرية والفلسفية - فكتب أنيس منصور هى إصدارات من النوع الخالد الذى لا ينتهى بوفاة الكاتب - فسوف تظل هذه الإبداعات التى صاغها أنيس بأسلوبه المتفرد فى عالم الكتابة فى عالمنا المعاصر نبراساً مضيئاً للأجيال الحالية والقادمة التى تهفو عقولها إلى الثقافة والأدب والفلسفة. وسوف نظل نحن ما حيينا تلاميذ الأستاذ أنيس فى مدرسته الصحفية «أكتوبر» والتى اعتمد فى تأسيسها على جيل من الشباب دفع بهم دون خوف أو تردد إلى عالم الصحافة وهو على يقين أنهم سيصبحون نجوما كلا فى مجاله.. سوف يظل أنيس منصور الأستاذ والمعلم بداخل كل منا فى عقله وقلبه وقلمه وروحه الصحفية، فلم يكن الأستاذ أنيس معلما وأبا روحيا لنا فقط بقدر ما كان إنسانا ودودا قبل كل شىء يسأل عن أخبارنا الخاصة ويتابع باهتمام بالغ مسيرتنا الحياتية إلى جانب المسيرة الصحفية ويتدخل كثيرا بالنصح والمشورة فى أمورنا الشخصية كلما نلجأ إليه فى ذلك. *** وكان أنيس منصور هذا الصحفى العملاق الذى اقترب من كل الرؤساء والزعماء وأحبوه متواضعا إلى أقصى درجة فعندما تجلس معه لا تشعر مطلقا أنك أمام هذا العملاق - يحدثك فى كل شئون الدنيا ويستمع إليك باهتمام وأن تبلغه بأخبار تتصور أنها انفرادات حصلت عليها - وهو يبدى دهشته وإعجابه بما أتيت إليه به - ونحن كلنا واثقون أنه كان يعرفها مسبقاً وقبلنا بأيام - ولكن هذه الدهشة كانت تعطينا الثقة فى النفس وتشجعنا على الاستمرار. *** إن الأستاذ العملاق كان بالنسبة لى قبل أن يكون أستاذًا أو رئيسا فى العمل أبا روحيا فى مناحى الثقافة والفنون وقبلهما الصحافة - هو الذى كتب شهادة «ميلادى» وقرار «مولدى» الصحفى والفارق الزمنى بينهما 24 عاماً. فقد عرفته منذ طفولتى، كان صديقا حميما لوالدى الشاعر والأديب كمال منصور رحمه الله، تزاملا معا فى مدرجات كلية الآداب جامعة القاهرة، تخرجا فى دفعة واحدة والتحقا للعمل معا فى يوم واحد فى دار أخبار اليوم - إلا أن والدى بعد سنوات ترك الصحافة واتجه إلى العمل فى وزارة التربية والتعليم.. ومع ذلك ظلت تربطهما الصداقة العمر كله وكان صديقهما الثالث المشترك العملاق الراحل توفيق الحكيم - وقتها جئت أنا إلى الدنيا فى أكتوبر 1954 - وكانت مصر قد وقعت اتفاقية «الجلاء» مع بريطانيا - فأصر توفيق الحكيم أن يكتب والدى اسمى فى شهادة الميلاد «جلاء» تيمنا بالاتفاقية التى كانت مصر تعيش أفراحها ذلك التوقيت - إلا أن والدتى رحمة الله عليها لم توافق ولم يعجبها الاسم لندرته وغرابته واتفق والدى ووالدتى على تسميتى «أيمن» - وبارك أنيس منصور الاسم وأراد أن يرفع الحرج عن والدى أمام توفيق الحكيم فسارع بنشر الخبر فى صحيفة أخبار اليوم حتى يضع الحكيم أمام الأمر الواقع - وأدرك توفيق الحكيم مقلب أنيس منصور - غضب قليلا ولكنه سرعان ما بارك الاسم. *** واستمرت العلاقة تربط الوالد بالأستاذ لم تنقطع يوما إلا بوفاة والدى منذ قرابة 20 عاما - خلال رحلة الصداقة كنت أرى الأستاذ أنيس كثيرا فى زيارته منزلنا أو عندما يصطحبنى الوالد إلى أماكن لقائهما مع أصدقاء جيل الخمسينيات والستينيات والتى كانت تجمع أنيس والوالد وعبد الرحمن الخميسى وعباس الأسوانى ومحمود السعدنى - فى هذا الجو الذى عشته منذ الطفولة ظلت طموحاتى تنمو تدريجيا طوال فترات الدراسة المتلاحقة وعينى على الصحافة حبا فى الأستاذ أنيس الذى كان يشجعنى ويهدينى دائما كتبه والتى كانت تناسب إدراكى فى كل مرحلة دراسية - وارتباطى الروحى بالأستاذ أنيس هو الذى جعلنى التحق بكلية الإعلام - وقتها قال لى هذا يا بطل بداية المشوار انهى دراستك وأنا منتظرك فى أخبار اليوم - فور تخرجى طلبت من والدى تحقيق الحلم والذهاب إلى أخبار اليوم لألتحق بالعمل فى أى إصدار يرأسه أنيس منصور - فى ذلك التوقيت كان الرئيس السادات قد كلف أنيس منصور بإصدار مجلة أكتوبر فترك أنيس منصور مؤسسة أخبار اليوم وجاء إلى مؤسسة دار المعارف ليصدر منها مجلة أكتوبر فقررت أن ألحقه إلى هناك وسط نصائح أصدقاء والدى من كبار الصحفيين بأن «أكتوبر» مغامرة قد تفشل وعرض الأستاذ موسى صبرى على والدى تعيينى فى «الأخبار» إلا أننى رفضت ذلك تماما فلم يشغلنى بريق الأخبار أو الأهرام كإصدارات صحفية لها وزنها وثقلها فى عالم الصحافة المصرية، وإنما كان إصرارى هو العمل مع الأستاذ أنيس منصور فى أى مكان يذهب إليه وتحقق الحلم وذهبت مع الوالد إلى الأستاذ أنيس منصور الذى استقبلنى ضاحكا بعد أن عرف التخوفات التى سمعتها عن تجربة إصدار أكتوبر وكتب أنيس قرار مولدى وتعيينى صحفيا فى مجلة أكتوبر بعد عام أمضيته متدربًا فيها. وليعذرنى القارئ إن كنت قد أطلت فى سرد سيرتى الذاتية مع أستاذى أنيس منصور فهى واحدة من ذكريات أحد تلاميذه وأبنائه فى مجلة أكتوبر - وعاش إلى جواره أزهى عصور الصحافة المصرية. *** وستظل الصحافة المصرية والعربية تذكر أنيس منصور صاحب الأسلوب السلس النافذ بصدق إلى قلوب وعقول قرائه فى كل أرجاء المعمورة على مدى 5 عقود سوف يعيش فى قلوب وعقول الأجيال المتلاحقة بإبداعاته التى تناولت شتى ألوان الثقافة والمعرفة والتى ظل بها متربعا على قمة الكُتاب الأكثر مبيعا لإنتاجهم الأدبى والثقافى فى مصر والعالم العربى، فهذا هو أنيس منصور فيلسوف الصحافة المصرية والعربية. سيظل الأستاذ يعيش فى قلوبنا وعقولنا نحن أبناء مدرسته الصحفية «أكتوبر» وسوف نظل متمسكين بروح الأسرة والفريق - بروح الحب فيما بيننا وهى التى زرعها بداخلنا منذ بداية مشوارنا الصحفى معه وحوله - وسوف نظل متمسكين بكل هذه القيم وأخلاقيات المهنة التى زرعها فى نفوسنا العملاق الراحل. *** وها هو أحد تلاميذه النابهين فى مدرسة «أكتوبر» الصحفية الصديق وزميل الدراسة الأستاذ محسن حسنين رئيس التحرير يسير على طريق الأستاذ جاهدا لإعادة هذه الروح إلى أسرة أكتوبر، خاصة بين جيل الشباب من الصحفيين ونحن معه وحوله وسوف ينجح إن شاء الله.