لم تكن أحداث يوم الأحد الدامى التى وقعت فى «ماسبيرو» الأسبوع الماضى سوى إحدى نتائج أخطاء إدارة المرحلة الانتقالية التى أشرت إلى بعضها فى المقال السابق، أو هكذا يتعين فى تقديرى النظر إليها، إذ أن لجوء الإخوة المسيحيين إلى تصعيد احتجاجهم العنيف بهذه الحشود الضخمة على خلفية أزمة كنيسة الماريناب بمحافظة أسوان إنما يعكس فى حقيقة الأمر هواجسهم مما يمكن أن تسفر عنه نتائج الانتخابات البرلمانية ومن ثم هواجسهم بشأن الدستور الجديد، وتلك هى القضية التى كانت مثار جدل سياسى كبير بين عموم المصريين.. هل الدستور أولاً أم الانتخابات؟ وبصرف النظر عن تأكيدات محافظ أسوان بأن تلك الكنيسة سبب الأزمة لم تكن كنيسة وإنما «مضيّفة».. تم الترخيص بهدمها وإعادة بنائها، ثم حدث أن قام مسيحيو القرية بتعليتها عدة أمتار زائدة بهدف تحويلها إلى كنيسة، ومع كل الإدانة لقيام مواطنين مسلمين بالتصدى لتعلية المبنى وتحويله إلى كنيسة، باعتبار أن ذلك من اختصاص رجال الإدارة فى المحافظة ووفقا للقانون.. إلا أن مثل هذه الأزمة العابرة التى كان يتعيّن حلها بهدوء وبالتنسيق بين الكنيسة الأرذوكسية ومحافظ أسوان.. لم تكن تستدعى بأية حال هذا التصعيد العنيف ونقل مشكلة كنيسة صغيرة بإحدى قرى الصعيد إلى قلب العاصمة بذلك الاحتشاد الكثيف وبتلك الهتافات الطائفية ومحاولة تصوير مشكلة صغيرة على أنها مظهر من مظاهر اضطهاد وتمييز يتعرّض له المسيحيون فى مصر وعلى غير الحقيقة. الأمر الخطير فى تلك الأحداث هو ذلك الصدام الذى افتعله المتظاهرون المسيحيون مع قوات الجيش والشرطة العسكرية التى كانت تقوم بحراستهم وتأمين مظاهراتهم التى بدأت سلمية، وهو الصدام الذى بدأ بالاعتداء على الجنود بالحجارة والأسلحة البيضاء ثم تطور إلى إطلاق النار على الجنود الذين لم تكن فى أسلحتهم ذخيرة حية، وهو الاعتداء الذى أسفر عن استشهاد ثلاثة من الجنود وإصابة العشرات، فى نفس الوقت الذى قام فيه المتظاهرون المسيحيون - وحسبما أوضحت المشاهد التليفزيونية - بإحراق إحدى مصفحات الجيش والعديد من سيارات المواطنين والاعتداء على قائدى هذه السيارات. ولذا فإن التعلل باندساس عناصر من البلطجية بين المتظاهرين المسيحيين وأنهم الذين أطلقوا الرصاص وأشعلوا النيران.. تكذّبه مشاهد الفيديو وشهادة شهود العيان، وفى كل الأحوال فإن احتشاد آلاف المسيحيين وتصعيدهم لتظاهرهم يبقى هو المسئول عن كل ما جرى فى ذلك اليوم الدامى الحزين. *** المؤسف والمؤلم فى آن واحد أن تسفر مظاهرات وأحداث ماسبيرو عن سقوط (17) قتيلاً - حتى كتابة هذه السطور- من شباب المسيحيين.. قتلهم التصعيد غير المبرر والتحريض الطائفى البغيض من جانب الكهنة الذين تقدموا المظاهرات ويتحملون وزر إزهاق أرواح وإراقة دماء الشهداء والجرحى والمصابين سواء من أفراد الجيش أو من المدنيين. لقد غاب عن هؤلاء الكهنة والقساوسة أن الدين وفقا للعقيدة المسيحية محبة ودعوة للسلام والتسامح مثلما غاب عنهم أن دم الإنسان أكبر حرمة وأكثر قداسة من أى مسجد أو كنيسة، بل إن الإسلام يعتبر أن دم الإنسان أكثر حرمة من المسجد الحرام ذاته. *** كما قلت فى البداية فإنه لا تفسير واقعيا وحقيقيا لتصعيد المسيحيين لاحتجاجاتهم وعلى هذا النحو العنيف المختلف عن احتجاجاتهم السابقة سوى هواجسهم من أن تسفر الانتخابات البرلمانية المقبلة - إن اكتمل إجراؤها- عن فوز التيارات الإسلامية المتشددة بالأغلبية والتى تمكنهم من إصدار الدستور الجديد وفقاً لتوجهاتهم وبما يهدد إقامة الدولة المدنية وضمان حقوق المواطنة دون تمييز، ومن ثم فإنهم بدوافع تلك الهواجس يسعون لاستباق الأحداث والنتائج المقلقة لهم بالإعلان بأعلى صوت بأن لهم مطالب بعدم التمييز ضدهم ومن بينها مشكلة بناء الكنائس. ولقد غاب عن المصريين المسيحيين ولا أقول الأقباط، تصحيحاً لذلك الخطأ الشائع، باعتبار أن كل المصريين أقباط.. منهم أقباط مسلمون وأقباط مسيحيون.. لقد غاب عن المصريين المسيحيين أن الدستور الجديد لن يصدر إلا بعد صياغة مواده صياغة تعكس وتعبر عن توافق وإرادة جموع المصريين ولن يحتكر فصيل أو تيار بعينه مهما كانت نتائج الانتخابات البرلمانية صياغة الدستور وفقاً لهواه أو توجهه، ثم إنه لن يتم إقراره نهائيا إلا بعد استفتاء شعبى عام. الأمر الآخر المؤكد أنه لا المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى يدير شئون البلاد ولا جموع المصريين أصحاب ثورة 25 يناير التى قامت من أجل الدولة المدنية ودولة القانون والعدالة الاجتماعية.. لن يرتضوا بقيام دولة دينية أو ظهور خومينى آخر فى مصر وهو ما تعهّد به المجلس العسكرى منذ توليه سلطة إدارة المرحلة الانتقالية، وفى نفس الوقت فإنهم لن يقبلوا على الإطلاق المساس بعقيدة المسيحيين أو أى من حقوقهم المتساوية تماما مع حقوق المسلمين. إن تاريخ مصر الحديث وطوال أربعة عشر قرنا ومنذ أن دخلها الإسلام وصار دين الغالبية العظمى لشعبها.. يشهد بأنها لم تعرف أى شكل من أشكال الاضطهاد الدينى مثلما لم تعرف أى لون من ألوان التمييز بين مواطنيها على أساس العقيدة أو الجنس أو العرق أو اللون، فلقد عاش المصريون جميعا.. المسيحيون واليهود قبل المسلمين متساويين فى الحقوق والواجبات، ويشهد بذلك أيضاً قضاتها ووزراؤها وأدباؤها وعلماؤها وتجارها وفنانوها ومطربوها وصحفيوها من المسيحيين بل من اليهود أيضاً، والأكثر من ذلك أن مصر وعبر تاريخها الإسلامى الممتد لأربعة عشر قرنا احتضنت على أرضها كل من وفد إليها.. لاجئاً أو مقيماً.. طالبا جوارها وأمنها وأمانها. *** إن السطور السابقة ليست كلاما إنشائياً مرسلاً ولكنها تذكير بحقائق ووقائع، ولذا فإن على الإخوة المسيحيين شركاء الوطن الانتباه جيداً إلى مؤامرات الوقيعة وافتعال الأزمات مع الدولة أو مع أشقائهم المسلمين، ولعله لا يغيب عنهم بل يتعيّن ألا يغيب عنهم أن من يسعون - سواء من الداخل أو من الخارج - إلى زرع الشقاق وتأجيج الفتنة الدينية فى مصر إنما يتآمرون لإجهاض ثورة 25 يناير التى صنعها المصريون جميعاً.. المسلمون والمسيحيون وذلك بزعزعة الأمن والاستقرار والسلام الاجتماعى بالضرب على ذلك الوتر الحساس وهو الدين لعلم هؤلاء المتآمرين بقدر الدين وقداسته لدى المصريين على اختلاف العقيدة.. الإسلامية والمسيحية على حد سواء. إن على الإخوة المسيحيين شركاء الوطن أن يحذروا بشدة من تلويح بعض الجهات الصهيونية الأمريكية باستعدادها للتدخل لحماية ما وصفوها بالأقلية المسيحية المصرية وحماية كنائسهم حسبما جاء فى تسريبات إعلامية عقب أحداث ماسبيرو وبدت «بالون» اختبار حيث جرى نفيها فوراً، ولأنه من المؤكد أن وطنية المسيحيين المصريين تأبى الاستجابة إلى مثل تلك المساعى الخارجية الخبيثة للتدخل فى الشئون المصرية باعتبار أن ذلك عار وطنى.. تجرّمه الوطنية وتحرّمه المسيحية، فإنه يبقى ضرورياً تجنب أى تصعيد لأية أزمة قد تنشأ هنا أو هناك لسبب أو لآخر، باعتبار أن القانون وحده كفيل بحماية وصون حقوق المصريين جميعاً.. المسيحيين والمسلمين. *** تبقى ملاحظة مهمة وخطيرة خاصة برجال الدين المسيحى من الكهنة والقساوسة الذين تحتّم عليهم تعاليم المسيحية أن يكونوا دعاة محبة وتسامح، لا دعاة إثارة وتحريض وتصعيد، إذ بدا مسيئا ومؤسفا أن يقود اثنان من القساوسة مظاهرات ماسبيرو فى إقحام للدين فى السياسة وهو ما ندينه على الجانب الإسلامى وإذ بدا مسيئا ومؤسفا أيضاً أن يتلفظ كاهن فى الصعيد بعبارات سب فى حق محافظ أسوان متهما إياه بأنه «كداب» وسوف يضربه «باللى فى رجله»!! وهو مسلك يسىء إلى الكنيسة المصرية يستوجب محاسبة هؤلاء القساوسة. وللحديث بقية الأسبوع المقبل.