يبدو المشهد السياسى فى مصر الآن وكأنه جزء من مسرحية عبثية!.. العبثية لمن لا يعرفها فلسفة تقوم على الاعتقاد بأن محاولات الإنسان لإدراك معنى الكون محكوم عليها بالفشل.. دائماً.. لذلك هى عبثية!.. لا أريد أن أوجع رأس القارئ بتفاصيل فلسفية لكننى أقارن بين ما يؤمن به أصحاب هذه الفلسفة من أنه من العبث التفتيش عن معنى السلوك الإنسانى.. وما يحدث على الساحة السياسية، والذى يبدو أيضاً أنه من العبث التفتيش عن معناه!.. عدوى العبثية امتدت إلى أشياء كثيرة منها الفضائيات فتجد المذيع - على سبيل المثال - نفس المذيع فى نفس البرنامج فى نفس القناة الفضائية يعقب على خبر عن الإضرابات والاعتصامات فيقول: إن من حق المواطن أن يضرب ويعتصم وأن الحكومة ترتكب خطأ فاحشا بسكوتها وتجاهلها وأنها لابد وأن تستجيب لمطالب المضربين والمعتصمين المشروعة.. ثم يعود بعد دقيقة أو دقيقتين يلوم المضربين والمعتصمين ويتهمهم بابتزاز الحكومة ويطالبهم بمنحها فرصة لأنها -حسب تعبيره - لن تستطيع الاستجابة لكل المطالب فى وقت واحد!.. هل هناك تفسير لهذا الكلام؟.. هل هناك معنى لهذا التناقض؟!.. أليس ذلك هو العبث؟!.. وهكذا يبدو المشهد السياسى كله.. منتهى العبث!.. أبدأ بمواقف القوى السياسية المختلفة والأحزاب والائتلافات والحركات وغيرها من قضية قوانين الانتخابات.. أعترف بعجزى عن استيعاب وفهم خريطة هذه القوى والائتلافات وأظن أنه ليس فى وسع أحد حتى المتخصصين تحديد أسمائها ورصد عددها!.. لا يهم فأنا معنى أكثر بمواقفها.. العبثية!.. فى البداية كان مطلب كل القوى السياسية والائتلافات والحركات هو إقامة الانتخابات التشريعية فى الموعد الذى نص عليه الإعلان الدستورى.. وعندما أعلن المجلس العسكرى عن مواعيد الانتخابات.. اعترضت بعض القوى السياسية والحركات والائتلافات وراحت تطالب بتأجيل الانتخابات ستة أشهر أو عام أو حتى عامين وحجتها أنها غير جاهزة لخوض الانتخابات وأنها تحتاج إلى وقت أطول لكى تطرح نفسها على الناخب المصرى!.. ثم قوانين الانتخابات.. اعترضت القوى والائتلافات على طريقة تقسيم الدوائر الانتخابية وعلى منح المستقلين نفس فرصة أصحاب القوائم.. ويجتمع المجلس العسكرى بممثلى القوى السياسية والأحزاب والائتلافات ويناقش وجهة نظرهم ويستمع إلى آرائهم.. وخلال الاجتماع يتوافق الجزء الأكبر من الحاضرين على أن تكون الانتخابات بالقائمة بنسبة الثلثين والانتخابات بالنظام الفردى بنسبة الثلث.. المجلس العسكرى وافق على إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية لكنه أوضح استحالة إلغاء النظام الفردى تماما لأن إلغاءه يحرم المواطن المصرى الذى لا ينتمى لأحزاب من الترشح.. وهى مسألة غير دستورية.. وقد وافق على ذلك عدد غير قليل من القوى السياسية والأحزاب والائتلافات ثم عادوا جميعا يعترضون ويرددون أن تقسيم النظام الانتخابى إلى نظام القائمة والنظام الفردى.. حتى لو كانت النسبة ثلثين وثلث معناه إتاحة الفرصة لفلول الحزب الوطنى وجماعة الإخوان المسلمين للاستيلاء على ثلث مقاعد البرلمان!.. القوى السياسية والحركات والائتلافات تخاف من «الفلول» ومن المنطق أن تعاديها.. لكن لماذا تخاف من الإخوان وتعاديهم؟!.. الغريب أن هذه القوى والائتلافات والحركات تردد دائما أنها تنظر إلى جماعة الإخوان المسلمين على أنهم شركاء فى الثورة وجزء أصيل من النسيج المصرى.. وأنها لا تمانع من دخولهم البرلمان حتى لو فازوا بالأغلبية.. لكنها فى نفس الوقت تعرب عن تخوفها من أن يؤدى النظام الانتخابى إلى فوزهم بثلث مقاعد البرلمان!.. الأكثر غرابة أن الإخوان المسلمين - أنفسهم - الذين صرحوا مرارا وتكرارا أنهم لن ينافسوا إلا على ثلث مقاعد البرلمان فقط.. أقاموا الدنيا ولم يقعدوها اعتراضا على النظام الانتخابى واعتراضا على تعديلاته.. كأنهم يريدون الفوز بكل مقاعد البرلمان!.. ثم تسمع عن مطالب القوى السياسية والائتلافات والحركات بضرورة السماح لأعضاء الأحزاب بالمنافسة على المقاعد الفردية.. قبل طرح أى تصور للنظام الانتخابى كان هناك شبه إجماع بين القوى السياسية والحركات والائتلافات على ضرورة الفصل بين الأحزاب السياسية وبين المستقلين.. وكانوا يضربون المثل بالانتخابات التى كان ينظمها الحزب الوطنى فيدخلها مستقلون يبادرون فور نجاحهم بالانضمام للحزب!.. وبعد أن أعلن المجلس العسكرى عن النظام الانتخابى وبعد أن قام بتعديله إرضاء لخاطر القوى السياسية والحركات والائتلافات.. عادت هذه القوى والائتلافات تطالب بالسماح لأعضاء الأحزاب بالمنافسة على المقاعد الفردية!.. وتسمع من بعض القوى السياسية والأحزاب والائتلافات دعاوى لمقاطعة الانتخابات.. وتسمع منها - هى نفسها - دعاوى لعدم مقاطعة الانتخابات!.. أليس ذلك هو العبث؟!.. *** لو نأتى لموضوع الطوارئ الذى تطالب القوى السياسية والأحزاب والائتلافات.. المجلس العسكرى بإنهاء حالته فوراً وتهدد بالتصعيد!.. المجلس العسكرى أعلن عن تفعيل قانون الطوارئ ومد العمل به حتى منتصف العام القادم فى أعقاب أحداث العنف التى شهدتها المنطقة المحيطة بالسفارة الإسرائيلية.. الأحداث العنيفة أثارت فزع الشارع المصرى وجعلت كثيرين يتساءلون: أين الجيش المصرى؟.. أين قانون الطوارئ؟!.. وعندما استجاب المجلس العسكرى لمخاوف الشارع وتساؤلات المواطنين.. اندفعت القوى السياسية والحركات والائتلافات تهاجم قرار المجلس العسكرى بمد العمل بحالة الطوارئ!.. ليس هناك من يتمنى أن تحكم مصر بقانون الطوارئ.. لا أحد يريد قوانين استثنائية.. لكن متى تطبق قوانين الطوارئ إن لم تطبق فى مثل هذه الظروف التى اختلط فيها الحابل بالنابل وأصبحت الفوضى هى القاعدة والالتزام هو الاستثناء؟!.. ومتى تفرض البلاد - مصر وغيرها - حالة الطوارئ.. عندما تكون هناك حاجة لذلك.. أم عندما تنتهى هذه الحاجة؟!.. الغريب أن الذين يبكون الآن على الحريات الضائعة وعلى كرامة الشعب المهدرة لأن المجلس العسكرى قام بتفعيل قانون الطوارئ.. هم أنفسهم الذين كانوا يهاجمون الجيش والمجلس الأعلى لعدم مواجهة أعمال البلطجة بقانون الطوارئ وكانوا يصرخون بأعلى صوتهم ويتساءلون فى الفضائيات.. فى أعقاب حوادث الفتنة الطائفية: لماذا لا يطبق الجيش الأحكام العرفية؟!.. ومتى يطبقها.. بعد خراب مالطة؟!.. وعلى الرغم من أن الجيش أعلن أن قانون الطوارئ لن يطبق على السياسيين والنشطاء وغيرهم وأنه لن يستخدم إلا ضد حالات البلطجة والاعتداء على المنشآت العامة والحيوية إلا أن الاعتراض مازال قائما على تطبيقه.. من الذين كانوا يعترضون على عدم تطبيقه!.. ماذا يكون ذلك إن لم يكن العبث؟!.. *** و أصل إلى أخطر المشاهد العبثية على الساحة السياسية.. موقف القوى السياسية والأحزاب والائتلافات والحركات من المجلس العسكرى.. من «العسكر» كما يطلقون عليهم!.. الحكاية بدأت بأن الشعب والجيش يد واحدة لكنها وصلت الآن إلى حد اتهام المجلس العسكرى بأنه متواطئ مع النظام القديم وأنه يسعى للحكم!.. لم يهتم أحد بأن يسأل نفسه وغيره: كيف يمكن اتهام المجلس العسكرى بالتواطؤ.. إن كان ذلك صحيحا فلماذا تخلى فى البداية عن قائده الأعلى؟!.. لماذا لم يعمل على مواجهة الثائرين - وكان ذلك فى إمكانه - ويساعد الرئيس السابق على الاستمرار فى منصبه؟!.. لماذا انحاز من أول لحظة للثورة والثوار؟!.. ثم مسألة السعى للحكم.. هناك من يردد أن المشير طنطاوى يسعى للاستيلاء على الحكم أو عسكرته حسب تعبير الشباب.. الغريب - ولعله السخيف - أن البعض اتخذ من زيارة قام بها المشير طنطاوى بملابس مدنية لمنطقة وسط البلد.. دليلاً على أن الجيش يسعى للاستيلاء على الحكم وأن المشير طنطاوى كان يختبر بنفسه مدى قبول الشارع له كرئيس للجمهورية!.. المشير طنطاوى رجل عسكرى وهو القائد العام للقوات المسلحة.. فهل من المعقول أن يفكر بهذه الطريقة؟!.. ثم إنه لو كان يسعى للحكم كما يزعمون فلماذا رفض منصب نائب رئيس الجمهورية عندما طلب منه ذلك؟.. على الأقل كان سيضمن ولاء الجيش له.. لكنه رفض المنصب.. فهل يقبله ويسعى إليه الآن؟!.. ويغرق المشهد فى العبثية فتقرأ تصريحات مرشد جماعة الإخوان المسلمين التى تقول إن أحدا لن ينجح فى الوقيعة بين الجيش والإخوان.. فى نفس الوقت الذى يهدد فيه المتحدث الرسمى باسم الجماعة الجيش ببحور من الدماء إذا لم يستجب للمطالب!.. وتتحدث بعض القوى الساسية والأحزاب والائتلافات عن المجلس الأعلى العسكرى وكأنه إحدى كتائب جيش الدفاع الإسرائيلى!.. فى نفس الوقت الذى يطالب فيه البعض الآخر من نفس القوى والحركات والائتلافات بأن يحكم الجيش.. على الأقل لمدة عامين حتى تصل مصر إلى بر الأمان!.. منتهى العبثية!.. *** قلت إن المشهد السياسى فى مصر الآن يبدو وكأنه جزء من مسرحية عبثية.. لأننى لا أجد تفسيرا لكل هذا الخلط المتعمد للأوراق وهذا التناقض الغريب فى المواقف.. لكل هذا العبث.. إلا إذا كان ذلك كله خطة منظمة وممنهجة لإشاعة الفوضى وإسقاط مصر.. وأنا لا أصدق أن هناك مصريا واحداً يسعى لإسقاط مصر.. مهما كان انتماؤه واتجاهه.. لهذا السبب فضّلت أن تكون هذه المحاولة.. محاولة لعدم الفهم وليس للفهم!..