بالإعلان الدستورى الجديد الذى أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم الثلاثاء الماضى والذى تضمن ترتيبات وتوقيتات إجراء الانتخابات البرلمانية لمجلسى الشعب والشورى الجديدين بداية من فتح باب الترشيح يوم 12 أكتوبر الجارى وحتى موعد دعوة المجلسين للانعقاد فى شهر مارس القادم فى بداية فصل تشريعى جديد فى تاريخ الحياة النيابية فى مصر.. بهذا الإعلان الدستورى فإن المجلس يكون قد بدأ أولى خطوات تسليم السلطة إلى سلطة مدنية منتخبة حسبما تعهد فى بداية المرحلة الانتقالية. لقد بدّد المجلس بهذا الإعلان الدستورى الجديد أية شكوك بشأن التباطؤ والتلكؤ فى تسليم السلطة بقدر ما حسم فى نفس الوقت الجدل والخلاف بين القوى والتيارات السياسية حول ما يتعلق بإجراء الانتخابات البرلمانية والذى كاد أن يعطّل بدء العملية السياسية لإعادة بناء مؤسسات الدولة ومن ثم إطالة المرحلة الانتقالية. وأحسب أن ما تضمّنه الإعلان الدستورى بتخصيص ثلثى المقاعد البرلمانية للقائمة النسبية والثلث الآخر للمستقلين يمثل حلا وسطا معقولا وضروريا فى نفس الوقت بين إجراء الانتخابات حسبما كان مقررا مناصفة بين القائمة والفردى وبين مطلب إجرائها كلها بالقائمة، خاصة وأن تخصيص مقاعد للمستقلين يضمن تجنب الطعن فى دستورية العملية الانتخابية والبرلمان الجديد. ولعل هذا الحل الوسط بشأن القائمة والفردى يكون مدعاة لإنهاء وتوقف الجدل السياسى واعتراض غالبية القوى السياسية على تخصيص نسبة للمستقلين، وبحيث تبدأ الأحزاب والتيارات المختلفة استعداداتها لخوض أول انتخابات تجرى بعد الثورة وإسقاط النظام السابق ووسط أجواء من الحرية والديمقراطية لم تشهدها مصر منذ ستة عقود. وإذا كان لدى الكثيرين هواجس ومخاوف من تخصيص ثلث مقاعد البرلمان فى الانتخابات المقبلة للمستقلين باعتبار أنها تفتح الباب واسعا أمام استخدام سطوة المال والعصبيات خاصة فى الريف الذى يضم غالبية الدوائر الانتخابية ومن ثم فوز عناصر من فلول النظام السابق وحزبه المنحل وما يعنيه ذلك من مخاطر عودة النظام السابق متسللاً إلى السلطتين التشريعية والتنفيذية وهو الأمر الذى يمثل انتكاسا للثورة وانتقاصا من مكتسباتها ومدخلاً لاحتمالات إجهاضها. *** وإذا كانت ذات الهواجس والمخاوف تقلق غالبية الأحزاب والقوى السياسية المدنية والليبرالية باعتبار أن التيارات الدينية المتطرفة من «الإخوان» والسلفيين والجماعات الإسلامية هى المستفيد الأول وربما الوحيد من تخصيص ثلث مقاعد البرلمان للمستقلين، فإن مثل تلك الهواجس والمخاوف يبددّها أو يتعين أن تبددها عدة اعتبارات. أول هذه الاعتبارات هو الرهان على حالة جديدة من الوعى السياسى الشعبى الذى تفتّح بفعل ثورة 25 يناير وأنضجه انتصارها وإسقاطها للنظام السابق الفاسد وعلى النحو الذى تتهاوى أمامه سطوة المال وإغراؤه وبقايا نفوذ أضعفته الثورة، والاعتبار الآخر هو الرهان أيضاً على أن التصويت فى تلك الانتخابات ورغم ما تواتر عن القوة التنظيمية للتيارات الدينية سوف يكون بمنأى عن تأثير وضغوط ودعاية هذه التيارات وعلى العكس تماما مما حدث فى انتخابات عام (2005) وحيث جاء حصول «الإخوان» على (20%) من مقاعد مجلس الشعب نتيجة للتصويت الاحتجاجى ضد النظام السابق وحزبه المنحل بأكثر مما كان تصويتا لصالح هذه الجماعة أو تعبيرا عن الإرادة الحقيقية للناخبين الذين صوّتوا لصالح مرشحيها. ثم إن تبديد تلك الهواجس والمخاوف من استحواذ فلول النظام السابق وحزبه المنحل والتيارات الدينية على مقاعد المستقلين يبقى مرهونا أيضاً بقدرة كل من الأحزاب والقوى السياسية الليبرالية والمدنية والمرشحين المستقلين من الشخصيات السياسية الليبرالية على التواصل الجيد مع الناخبين وتقديم برامج انتخابية تتبدّى فيها الجدّية والصدقية لتلبية مطالب وطموحات جموع المصريين المشروعة فى العدالة الاجتماعية والعدالة السياسية والارتقاء بمستوى المعيشة والخدمات خاصة الصحية والتعليمية، إضافة إلى التصدى لمشكلتى البطالة والإسكان من خلال خطط وآليات واضحة ووفق جدول زمنى محدد لتوفير فرص العمل لملايين العاطلين وتوفير إسكان اقتصادى يلبى احتياجات الشباب ومحدودى الدخل والذين عجزوا عن الحصول على مسكن فى ظل سياسات الإسكان الفاخر الذى انتهجها النظام السابق ضمن ما انتهجه من سياسات أفقرت وأمرضت غالبية المصريين وأطاحت بنصف الشعب إلى ما تحت خط الفقر. الأهم من كل ذلك هو الرهان على أن تشهد الانتخابات إقبالا حاشدا من الناخبين لاختيار ممثليهم فى برلمان ما بعد الثورة على غرار الإقبال على التصويت فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية فى شهر مارس الماضى، وهو رهان على التحول الكبير الذى أحدثته الثورة نحو جدية وضرورة المشاركة الشعبية فى الحياة السياسية من خلال ممارسة الحق والواجب الانتخابى بعد غيبة دامت ستة عقود بسبب فقدان الثقة فى نزاهة كل ما جرى من انتخابات فى الماضى. *** ولأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة بوصفه السلطة الحالية فى هذه المرحلة الانتقالية وفى ضوء ممارساته منذ البداية قد بدا مؤكداً أنه يقف على مسافة واحدة من كافة القوى والتيارات السياسية، ولأنه قد بدا مؤكداً أيضاً أنه لم يسع إلى تغليب تيار أو حزب على تيار أو حزب آخر، ولأنه انحاز للثورة ومطالب الشعب المشروعة وبدأ إجراءات تسليم السلطة بالفعل حسبما تعهّد منذ توليه إدارة شئون البلاد عقب إسقاط النظام السابق، فإنه ولكل هذه الاعتبارات هو الضامن الحقيقى لنزاهة وحيدة وشفافية الانتخابات المرتقبة. إن النزاهة والحيدة والشفافية التى ستجرى فى ظلها الانتخابات البرلمانية ولأول مرة فى تاريخ الحياة السياسية والنيابية فى مصر وبضمان المجلس الأعلى للقوات المسلحة سوف تكون ضمانة حقيقية لتشكيل برلمان محترم يحظى بالمصداقية بقدر ما يعكس الحجم الحقيقى لكل حزب أو تيار سياسى فى البلاد، وفى نفس الوقت سيكون تعبيرا صادقا عن الإرادة الحرة للناخبين دون تزوير أو تدخل من السلطة أو ضغط من أى نوع. وسواء نجح حزب أو تيار سياسى بعينه فى الفوز بأغلبية مقاعد البرلمان وبما يتيح له الانفراد بتشكيل الحكومة الجديدة وهو أمر يبدو صعباً بل من المستحيل تحقيقه، أم توزعت المقاعد على عدة أحزاب وتيارات ومن ثم يتم تشكيل حكومة ائتلافية وهو أمر يزيد من صعوبة مهمتها، فإنه يبقى فى كل الأحوال أن الحكومة الجديدة ستكون حكومة منتخبة انتخابا ديمقراطيا نزيها بإرادة شعبية حرة، وتلك هى أول وأهم مكتسبات الثورة. *** إن بدء العملية السياسية لنقل السلطة بفتح باب الترشيح للانتخابات البرلمانية يوم (12) من شهر أكتوبر الجارى والذى يأتى متواكبا مع الاحتفال بذكرى الانتصار فى حرب أكتوبر، وهو الاحتفال الأول بهذه الذكرى المجيدة بعد ثورة 25 يناير.. إنما يؤكد فى واقع الأمر وطنية جيش مصر العظيم الذى تعهد بنقل السلطة فأوفى بتعهده. *** إن القوات المسلحة المصرية التى أنجزت فى مثل هذه الأيام من عام (1973) نصرا عسكريا كان معجزة بكل المقاييس باعتراف الأكاديميات العسكرية العالمية، والتى نجحت فى عبور أكبر مانع مائى فى تاريخ الحروب وعبرت بمصر من الهزيمة إلى النصر.. سوف تكون ممثلة فى مجلسها الأعلى قادرة بتأييد من جموع المصريين على العبور بمصر وثورتها من فساد النظام السابق إلى دولة القانون والديمقراطية.