باول فرانك.. هو إفرى إلعاد.. هو أبراهام زايدنبرج.. هو (الرجل الثالث) مثلما يطلق عليه فى إسرائيل وهو أيضا أول رجل فى تاريخ المخابرات تجرى له جراحة معاكسة لطهور الذكور. فقد تم تركيب غُرلته من جديد فى إحدى المستشفيات الإسرائيلية بهدف إعداده للعملية الاستخبارية التى تم تكليفه بها. وكان من المفترض أن تكون هذه العملية الجراحية جزءا من عملية تقوم بها المخابرات الإسرائيلية.. غير أن العملية انتهت بفشل ذريع لا زالت أصداؤه تُسمع حتى الآن فى دهاليز الموساد. على امتداد حوالى ثلاثة عقود وحتى إلقاء القبض على ماركوس كلينبرج، الأستاذ بالمعهد البيولوجى الإسرائيلى فى (نيس تسيوناه)، كان إفرى إلعاد يعتبر أكبر خائن فى تاريخ المخابرات الإسرائيلية. فلم يكن أحد يشك فى أنه هو الذى سلَّم زملاءه فى شبكة التخريب الإسرائيلية التى عملت فى مصر فى الخمسينيات إلى السلطات المصرية.وهى الشبكة التى تم إعدام اثنين من أعضائها هما الدكتور موشيه مرزوق وشموئيل عازار، وسجن الآخرين حيث حُكم على كل من فيكتور ليفى وفليب نتانزون بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، وعلى روبرت داسا ومارسيل نينيو بالسجن لمدة 15 عاما مع الأشغال الشاقة، وعلى مئير ميوحاس ومئير زعفران بالسجن لمدة سبع سنوات. ولفهم خلفية هذه الأحداث نقول إنه فى نوفمبر 1953، استقال دافيد بن جوريون، رئيس الوزراء ووزير الدفاع الإسرائيلى من منصبه وذهب ليقيم فى كيبوتس (ساديه بوكير) فى صحراء النقب. وبن جوريون كما هو معروف، الأب المؤسس لدولة إسرائيل. عندئذ، ساد الخوف سواء فى الحكومة أو فى أوساط الشعب الإسرائيلى من أن الرجلين اللذين جاءا ليحلا محله- موشيه شاريت فى رئاسة الحكومة وبنحاس لافون فى وزارة الدفاع- لن يتمكنا من ملء الفراغ الذى تركه بن جوريون. صحيح أن الحدود الإسرائيلية فى ذلك الوقت سجلت انخفاضا ملموسا فى عمليات التسلل، لكن وزير الدفاع الجديد أراد أن يثبت للجميع بأن لا يقل بأى حال عن سابقه. لذلك، تواصلت العمليات الانتقامية التى كانت قد بدأت مع تولية موشيه ديان رئاسة الأركان قبل حوالى عام . وكان وضع إسرائيل الدولى فى تلك الفترة معقدا للغاية، فالاتحاد السوفيتى تحول إلى دولة عظمى معادية، وبريطانيا أعلنت أنها تنوى إخراج قواتها من منطقة قناة السويس، والإدارة الأمريكية برئاسة دوايت ايزنهاور تنكرت لإسرائيل وأعربت عن أملها فى فتح قنوات جديدة مع النظام الجديد الذى قام فى مصر برئاسة جمال عبد الناصر والضباط الشبان.ولذلك ظن كل من بن جوريون وديان أن الزمن يعمل فى غير صالح إسرائيل وأن الدول العربية سوف تحاول إن عاجلا أو آجلا استعادة كرامتها التى أهينت فى حرب فلسطين 1948. واعتقد الاثنان أن الجيوش العربية سوف تخوض جولة جديدة من الحرب ضد إسرائيل. وعليه،فإن من الأفضل التبكير بتوجيه ضربة فى التوقيت الذى تحدده قبل أن يتم تسليح مصر بالصورة المناسبة. هذه هى الخلفية للمخطط الذى رسمته المخابرات العسكرية الإسرائيلية فى تلك الفترة. وهو المخطط الذى يصفه الإسرائيليون الآن بالمغامرة والمقامرة والحمق الشديد. ووفقا لهذا المخطط يقوم بعض الشباب اليهود- أعضاء شبكة التجسس والتخريب- بتنفيذ سلسلة من انفجارات فى دور السينما والمؤسسات العامة والمنشآت الأمريكية والبريطانية فى كل من القاهرةوالإسكندرية، بهدف زعزعة نظام حكم عبد الناصر وإظهاره فى صورة النظام غير المستقر، والوقيعة بينه وبين الدول الغربية. وكان مخططو هذه العملية التى أطلق عليها اسم (سوزانا) يأملون بأن تؤدى موجة الانفجارات لأن تقوم الولاياتالمتحدة بتقليص علاقاتها مع النظام المصرى، وتقوم بريطانيا بعدم إخراج قواتها من منطقة قناة السويس. وظلت مسألة (من أعطى الأوامر) لشبكة التجسس والتخريب فى مصر تائهة.. هل هو وزير الدفاع، لافون أم رئيس المخابرات العسكرية بنيامين جيبلى؟ وهل كان رئيس الأركان، موشيه ديان على علم بذلك؟ ظلت هذه المسألة تشغل الجهاز السياسى والقضائى والاستخبارى فى إسرائيل لفترة طويلة جدا.وحتى الآن لا أحد يعرف إجابة واضحة لهذه التساؤلات. وإن كانت الأبحاث والوثائق سواء فى مصر أو فى إسرائيل تقترب من التأكيد بأن كلا من لافون وجيبلى كانا على علم مسبق بالعملية بل وقاما أيضا بالتصديق عليها. وخلال فترة قصيرة نسبيا تحولت العملية إلى صراع سياسى أطلق عليه اسم (الفضيحة). كانت الفضيحة هى محور الخلاف بين معسكرين داخل الحزب الحاكم فى إسرائيل آنذاك وهو حزب عمال أرض إسرائيل المعروف اختصارا باسم (مباى). وانتهى الخلاف فى 1963 بحدوث انشقاق وانقسام حزبى بعد ما ترك بن جوريون وأتباعه (موشيه ديان وشمعون بيريس وإسحق نافون، والأديب س. يزهار وآخرون) الحزب وأنشأوا فى عام 1965 قائمة عمال إسرائيل المعروفة اختصارا باسم (رافى). وفى وسط هذه التعقيدات من جاسوسية وتخريب كانت هناك شخصية تؤدى إليها ومنها كل الخيوط. هذه الشخصية كانت تحمل ثلاثة أسماء وكنية واحدة. فقد ولدت وهى تحمل اسم أدولف- أبراهام زايدنبرج، وعاشت باسم إفرى إلعاد، وتخفت وعملت فى مصر تحت اسم باول فران. وسوف يذكرها التاريخ الأمنى فى إسرائيل باسم (الرجل الثالث). ولد زايدنبرج فى فيينا عام 1926 لعائلة صهيونية كانت على صلة وطيدة بالحركة الاشتراكية القوية فى النمسا. وكان أبوه أحد أركان هذه الحركة. وعندما أصبح فى الثالثة عشرة من العمر وفى أعقاب دخول هتلر إلى النمسا وضمها إلى ألمانيا النازية عام 1938، أرسله أبواه إلى فلسطين إنقاذا لحياته. تعلم الفتى اليهودى فى قرية الشبيبة (بن شيمن) وبعد مرور أربع سنوات تم تجنيده فى البالماخ والتحق بالسرية الأولى وبعد وبعد فترة قصيرة تم نقله إلى (القسم الألمانى). وكان عمل هذا القسم وراء خطوط العدو الألمانى بتكليف من الجيش البريطانى. وللقيام بهذه المهمة تم تجنيد حوالى 40 يهوديا من بين المتحدثين باللغة الألمانية فى فلسطين. وتحت غطاء من السرية الكاملة تم تدريب هذه المجموعة لمدة عام تقريبا. وكان المدربون من بين الجنود والضباط فى الفارماخت وهو جيش هتلر، الذين هربوا وانتقلوا إلى جانب العدو البريطانى. يقول إلعاد فى مذكراته: (علمونا كل شىء ابتداء من استخدام السلاح الألمانى المعتاد وانتهاء بقسم الولاء لهتلر. وحتى الآن يمكننى تسميع صيغة قسم الولاء. وكانت الطوابير بالخطوة الألمانية المعروفة). لكن بالرغم من كل هذه التدريبات لم يتعرض (القسم الألمانى) للاختبار، وقررت إدارة المخابرات فى الجيش البريطانى حل هذا القسم. فذهب بعض أعضائه لأداء مهام مختلفة معظمها استخبارتية، وتم إرسال بعضهم إلى الصحراء الغربية والبعض الآخر تم إبراره خلف خطوط الألمان فى يوغوسلافيا. أما زايدنبرج فقد تطوع فى وحدة كوماندوز تابعة للجيش البريطانى وكلف بمهام فى مصر وبعد ذلك فى إيطاليا. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عاد زايدنبرج من إيطاليا إلى فلسطين وانضم للهجاناه مع صدور قرار الأممالمتحدة الخاص بتقسيم فلسطين فى نوفمبر 1947، تم تجنيد زايدنبرج فى الكتيبة السادسة بلواء البالماخ (هرئيل) وحارب فى صفوفها. وعندئذ أيضا غير اسم عائلته زايدنبرج إلى إلعاد واسمه الشخصى ، أبراهام ، تم اختصاره إلى إفرى. فى البداية كان مساعدًا لضابط الاستخبارات فى لواء (هرئيل)، وبعد فترة من الوقت أصبح من أوائل المظليين فى إسرائيل، ثم تزوج من شولاميت زميلته فى الدراسة فى بن شيمن وأنجبا ولدا أسمياه (هرئيل). فى عام 1951 ترك الجيش الإسرائيلى بعد محاكمته عسكريا، وتم تنزيل درجته من رائد إلى عريف بعد قيامه بسرقة ثلاجة من منزل عربى مهجور، وبدأ إفرى إلعاد يعمل فى ورشة لتجميع سيارات أمريكية فى حيفا. ولكنه لم يصمد لفترة طويلة وتحول إلى عاطل بائس يوشك على الطلاق من زوجته.وانتظر الخلاص الذى جاءه من مصدر لم يكن يتوقعه. ففى عام 1952، ظهر له ذات يوم ضابط مخابرات فى الجيش الإسرائيلى وقال له: (من الأفضل أن ترى شخصا معينا فى تل أبيب.. عنده لك وظيفة). ذهب إفرى إلعاد للمقابلة التى عُرض عليه خلالها الانضمام للمخابرات العسكرية، وأبدى إلعاد موافقته على الفور،فالعرض كان بمثابة حبل النجاة بالنسبة له. وتم إرساله لإجراء سلسلة من الاختبارات النفسية تخطاها جميعها بنجاح تام ليبلغوه فى النهاية بأنه تم قبوله فى الوحدة 131. والوحدة 131 تم إنشاها فى عام 1948 وكانت تسمى آنذاك (مباحث 2) وتعمل فى إطار القسم السياسى بوزارة الخارجية الإسرائيلية. وتعتبر أكثر الوحدات سرية فى التنظيم الذى يرأسه شخص يدعى وريس جوريئيل. كان هدف هذه الوحدة هو المبادرة بأعمال تخريب ودعاية سوداء (حرب نفسية) وراء خطوط العدو وبانتهاء حرب فلسطين 1948 وفى العام 1949 قرر رئيس الوزراء ووزير الدفاع آنذاك ، دافيد بنجوريون، نقل (مباحث2) إلى قسم الاستخبارات بالجيش والذى أصبح فيما بعد شعبة الاستخبارات (أمان) آخذًا فى ذلك برأى رئيس الأركان يجئال يادين ورئيس قسم الاستخبارات، حاييم هيرتسوج من أن مهام (مباحث2) تناسب وحدة عسكرية أكثر منها مدنية. وبعد مرور حوالى عامين وفى عام 1951 قرر بن جوريون حل القسم السياسى بوزارة الخارجية وأنشأ مكانه فى أبريل 1951 (المؤسسة المركزية للتنسيق) وهى المؤسسة التى انبثق منها (جهاز الاستخبارات والمهام الخاصة) والمعروف باسم (الموساد) برئاسة رأوبين شيلوح. وفى المخابرات العسكرية قروا القيام بتغيير هيكلى فى (مباحث2)، وذلك بإنشاء وحدتين بدلًا منها هما الوحدة 131 والوحدة 132. وكانت مهمة الوحدة 132 هى القيام بعمليات حرب نفسية. فعلى سبيل المثال، قام بعض عملائها فى عام 1952م بنشر مواد دعائية ضد الملك والقصر فى شوارع القاهرة. ويقول يهو شافاط هركابى الذى كان آنذاك ضابطًا كبيرًا فى المخابرات العسكرية، وأصبح فيما بعد رئيسًا لها وداعمًا لنشاطات إفرى إلعاد، بأنه كان من بين مهام هذه الوحدة نشر صورة فوتو مونتاج تظهر الملك فاروق فى السرير بصحبة عاهرة، لكن المهمة لم تنجح. أما الوحدة التى تم تجنيد إفرى إلعاد فيها (131) فقد كانت بقيادة المقدم مردخاى (موتيكا) بن تسور، كان بن تسور هذا هو صاحب فكرة إنشاء شبكة سرية من العملاء فى مصر. وكان من المفترض أن يصبح أولئك خلايا نائمة يتم إيقاظها وقت الحاجة وفى حالة الحرب. وكانت مهام هذه الخلايا تنحصر فى تخريب المنشآت الاستراتيجية مثل الجسور والكبارى ومحطات توليد الكهرباء والطرق ومعسكرات الجيش. ولإنشاء هذه الشبكة تم تجنيد الرائد الإسرائيلى أبراهام دار. وكان دار قد ولد فى فلسطين، وعمل بعد الحرب العالمية الثانية فى أوروبا على تهجير اليهود لفلسطين. وفى حرب 1948م عمل فى مهام استخباراتيه ببعض الدول العربية. وبعد انتهاء الحرب، ترك الخدمة فى الجيش الإسرائيلى واتجه للحياة المدنية ثم تم تجنيده مرة أخرى عام 1951م. فى أوائل صيف ذلك العام وصل دار للقيام بمهمته الجديدة فى مصر، وكان يحمل فى جيبه جواز سفر بريطانيا باسم (جون دار لينج) وتخفى فى صورة رجال أعمال من عدن. وعلى امتداد عام 1952م، تمكن دار من تجنيد مجموعة من الشبان اليهود المتحمسين للصهيونية فى القاهرةوالإسكندرية. ولم يكن القائد بن تسور ولا أبراهام دار يعرفان بالضبط مهمة هذه المجموعة. وكل ما فى الأمر أنهما تحدثا معهم فى العديد من المهام مثل أعمال التجسس وجمع المعلومات ومساعدة اليهود على الهجرة غير القانونية والقيام بعمليات التخريب والدفاع عن النفس. وفى أغسطس 1951م غادر دار مصر تاركًا وراءه خليتين من الشبكة: واحدة فى الإسكندرية وأخرى فى القاهرة. ولكل خلية جهاز راديو تتلقى من خلاله التعليمات والأوامر والمهام المكلفة بها من الوحدة فى إسرائيل. وكانت كل خلية لا تعرف شيئًا عن الخلية الأخرى، ولكن أفراد الخلية الواحدة يعرفون بعضهم البعض بصورة جيدة. وعلى امتداد عامى 1952م، 1953م، سافر أعضاء الخليتين إلى فرنسا فرادى ومنها إلى إسرائيل حيث تم تدريبهم فى يافا على تشغيل أجهزة الراديو وأعمال التخريب والتجسس والتعرف على هوية السفن وأنواعها. ولم يشرحوا لهم فى أية مرحلة من المراحل كيف يتصرفون فى حالة كشفهم وإلقاء القبض عليهم. وعند عودة أعضاء المجموعة إلى مصر بعد انتهاء تدريباتهم فى إسرائيل، بدأوا يشترون من الصيدليات المواد التى يمكنهم من خلالها تصنيع القنابل، وتم تهريب مواد أخرى إليهم من إسرائيل. وفقًا لتعليمات تل أبيب أنشأ أعضاء الشبكة ورشة صغيرة لتصنيع القنابل. وبالتوازى مع عملية إنشاء الشبكة فى مصر كانت تجرى عملية تدريب إفرى إلعاد على يد مدربين متخصصين على قدم وساق.. علموه كيفية تشغيل جهاز اللاسلكى، وكيفية استقبال الرسائل المشفرة وكيفية فك الشفرة وإرسال رسائل مشفرة واستخدام الحبر السرى فى الكتابة. وعلموه أيضًا كيف يقوم بتصغير الصور والأفلام ودربوه على تصنيع واستخدام المتفجرات وكيف يتخفى ويهرب من المراقبة. وبعد ذلك بدأوا فى إعداده للدفع به إلى (بلد القاعدة) ألمانيا ، والتى كان من المفترض أن يحصل فيها على هويته الجديدة تمهيدًا لزرعه فى (بلد الهدف).. مصر. (البقية فى العدد القادم).