لم أتوقع على الإطلاق رد الفعل الغاضب والمبالغ فيه، بل والمتعالى، من جانب الخارجية الأمريكية رداً على ما نشرناه الأسبوع قبل الماضى عن السفيرة الأمريكيةالجديدةبالقاهرة آن باترسون تحت عنوان ((سفيرة جهنم التى تشعل النار فى التحرير)).. فأقصى ما كنت أتوقعه هو أن تقوم السفيرة الجديدة، كما يحدث فى كل الدول الديمقراطية، بالرد على ما كتبناه، إيماناً بحرية الرأى والرأى الآخر، لننشره لها فى نفس المكان ونفس المساحة، خاصة وأننى اتفقت على ذلك مع الملحقة الصحفية للسفارة الأمريكيةبالقاهرة عندما زارتنى فى مكتبى عقب نشر المقال مباشرة. لكن للأسف أضاعت سعادة السفيرة فرصة ثمينة كانت يمكن أن تكون وسيلة للتواصل مع الرأى العام المصرى، وإيضاح الموقف الملتبس للإدارة الأمريكية تجاه ما يحدث فى مصر والمنطقة العربية.. ولجأت السفيرة بدلاً من ذلك لأسلوب عتيق، عفى عليه الزمن، وهو ترك الرد لوزارة الخارجية الأمريكية التى قامت المتحدثة الرسمية باسمها بكيل الاتهامات للحكومة والمجلس العسكرى بأنهما يقومان بتسخين الرأى العام المصرى، وإثارة مشاعر الكراهية ضد الإدارة الأمريكية.. ونسيت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية، أو تناست، أن الرأى العام المصرى، بل والعربى كله، لا يحتاج لأى تسخين من أى طرف لكراهية أمريكا، لأن انحياز أمريكا الأعمى لإسرائيل على حساب الحقوق العربية المشروعة، واشتراكها فى مؤامرة الصمت على ما يحدث من جرائم بشعة ضد الفلسطينيين.. وتدخلها السافر فى شئون العديد من الدول العربية، ومنها مصر، كاف لإثارة سخط وغضب وكراهية أى وطنى غيور على وطنه من الإدارة الأمريكية «وعمايل» الإدارة الأمريكية.. ومن المهم هنا أن نفرق بين أمرين.. بين الإدارة الأمريكية والشعب الأمريكى العظيم الذى نكن له جميعاً كل الحب والاحترام والتقدير.. ومن الملاحظ أن اللهجة ولغة الخطاب التى استخدمتها المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية تشير إلى أنها مازالت تعيش أوهام الماضى، الذى ولَّى إلى غير رجعة، عندما كانت الصحف تدار بالريموت كونترول، وكان الكُتَّاب يكتبون ما يملى عليهم، ولم تعِ أن هناك صحافة حرة جديدة فى مصر الآن سقف حريتها هو السماء، لا تدار إلا بريموت كونترول مصالح الوطن والمواطن، ولا يكتب كُتّابها إلا ما تمليه عليهم ضمائرهم فقط.. وكان من الملاحظ أيضاً أن بيان الخارجية الأمريكية والتصريحات النارية للمتحدثة الرسمية لها تزامن مع حملة شرسة قادتها صحيفتا «وول ستريت جورنال» و«لوس أنجلوس تايمز» وكلتاهما تهاجم المجلس العسكرى و«مجلة أكتوبر» وتدافع عن السفيرة والسياسة الأمريكية بطريقة فجة تفتقر لأبسط قواعد المهنية الصحفية.. وهذه الملاحظة تجرنى إلى سؤال بديهى جداً وهو: هل هى مجرد مصادفة أن يتزامن بيان الخارجية مع حملة الصحيفتين؟ وهل هى مصادفة أن الكل يتحدثون لغة واحدة، ومفردات وعبارات تكاد تكون واحدة؟! وفى هذه الحالة أليس من حقنا أن نتساءل عمن يوجه صحفه ووسائل إعلامه بالريموت كونترول.. نحن أم الإدارة الأمريكية؟! وإذا كانت الصحف الأمريكية قد انتقدت «أكتوبر» لأنها قامت «بتحية» السفيرة «على طريقتها» بعد أقل من أسبوع على وصولها القاهرة، فأنا من جانبى أرى أن السفيرة، بالضجة التى افتعلتها والحبة التى جعلت منها قبة.. قد ردت التحية بأحسن منها..!! وعموماً قد يكون من المهم أن نؤكد أننا أبداً لم نقصد إحراج السفيرة الجديدة، لكننا فقط كنا نعبر عن نبض الشارع المصرى فى إطار من حرية الرأى.. وحتى التعبير الذى أغضب الجميع وهو «سفيرة جهنم» والذى انتقدته صحيفة وول ستريت جورنال، وانزعجت منه الملحقة الصحفية للسفارة الأمريكية، لم يكن أبداً من عندياتى، بل هو تعبير أطلقه شباب الإنترنت على السفيرة الأمريكية بعد استعراض سجلها «وسوابق أعمالها»، إن جاز لى التعبير، عندما كانت سفيرة لبلادها فى كولومبيا ومن بعدها باكستان.. فهذا التعبير شرف لا أدعيه وتهمة لا أنكرها.. وكنت أتمنى، بدلاً من أن تذبح لنا السفيرة الأمريكيةالجديدة «القطة»، كما يقول الموروث الشعبى، أن تجيب لنا عن مجموعة من الأسئلة التى تشغل بال الرأى العام المصرى والعربى.. فمثلاً.. ما معنى تعبير «نشر الديمقراطية» فى مصر والذى تدفع له أمريكا عشرات الملايين ولن أقول مليارات، رغم أن معلوماتى الخاصة تؤكد أنها بالفعل مليارات منذ أن بدأت ثورة 25 يناير وحتى الآن.. فنشر الديمقراطية تعبير فضفاض.. بل ومشبوه أيضاً بالنظر إلى تجارب نشر الديمقراطية الأمريكية فى العراق وأفغانستان، فهذه التجارب تؤكد أن نشر الديمقراطية شعار للهدم ونشر للفوضى لا للبناء والاستقرار.. كما أن على السفيرة الأمريكيةالجديدة أن تكشف لنا لماذا تدفع أمريكا «فى السر» من وراء ظهر الحكومة كل هذه الملايين أو المليارات لمنظمات المجتمع المدنى، ولماذا لا يتم كل ذلك فى شفافية تامة طالما أن الهدف نبيل..؟! والسؤال الأهم: هل تسمح الولاياتالمتحدة لمنظمات المجتمع المدنى داخل أمريكا بتلقى تمويل أجنبى من وراء ظهر الحكومة..؟ أم أن هذه السرية وحالة الغموض مقصورة فقط على الدول النامية التى تسعى أمريكا لنشر الفوضى الخلاّقة فيها..؟! إننى لن أطيل على السفيرة الأمريكية، لكننى بالمناسبة وجّهت كل هذه الأسئلة للملحقة الصحفية للسفارة الأمريكية ووعدتنى إما بأن ترد عليها السفيرة بنفسها وعلى لسانها، أو ترد عليها السفارة فى صورة تقرير غير منسوب لأحد ينشر كمعلومات خاصة بى.. وعلى الرغم من مرور أكثر من أسبوعين على طرح هذه الأسئلة إلا أن السفارة الأمريكية لم تجب عنها.. وأعتقد أنها لن تجيب عنها أبداً.