حالة من الجدل تفجرت فى الوسط الثقافى بعد إعلان جوائز الدولة إذا اتهم عدد من المثقفين المجلس الأعلى للثقافة بمجاملة عدد من الفائزين على حساب آخرين كانوا أولى بالجوائز، مؤكدين أن المجلس لم يستلهم روح ثورة 25 يناير فى جوائزه وظل على الآلية المتبعة فى النظام السابق. د. عز الدين شكرى الأمين العام للمجلس نفى فى حديثه ل «أكتوبر» هذه الاتهامات، مؤكدا أن اختيار الفائزين تم بشفافية ووفق أكبر قدر من النزاهة، كما تحدث عن أهم الموضوعات المطروحة الآن فى أذهان المثقفين حول دور المجلس الأعلى للثقافة وكيفية الاستفادة من هذه المؤسسة الثقافية التى تعد الأهم من بين المؤسسات الثقافية الأخرى خصوصا أنه تم إنشاؤه ليمارس الدور الرئيسى فى حياة المثقفين.. فإلى نص الحوار: * كان ثمة إجماع بأن اجتماع المجلس الأخير كان مختلفا.. خصوصا مع خطوة نقل فاعليات التصويت بالصوت والصورة على الهواء مباشرة مما لاقى ارتياحا من الإعلاميين والمراقبين.. ما تقييمك لهذه الدورة للمجلس وتعليقك على الاجتماع؟ ** أعتقد أن اجتماع المجلس الذى تم خلاله إقرار الفائزين بجوائز الدولة، ومناقشة جدول الأعمال المدرج على قائمته، ومن مجمل الآراء والمتابعات التى كتبت وعلقت عليه، كان مرضيا إلى حد كبير، وخرج بشكل لائق، وأتصور أن التصويت هذا العام كان مختلفا، خصوصا بعد نقل الاجتماع وإجراءات التصويت لحظة بلحظة من خلال الكاميرات، وهو الأمر الذى تم للمرة الأولى، مما مكن الصحفيين والمتابعين بشكل عام من مشاهدة تفاصيل الاقتراع والتصويت على الفائزين بجوائز الدولة، و كان له أثر إيجابى فى نفوس الجميع. كما أعتقد أن فكرة نقل فعاليات الاجتماع على الهواء مباشرة، ومن خلال شاشة عرض عملاقة بالقاعة المجاورة لقاعة الاجتماعات، كان لها تأثير كبير فى الحد من التربيطات والاتفاقات التى كانت تتم فى السابق، وكذلك من محاولات التأثير لصالح هذا المرشح أو ذاك وهو ما أعلنه الأديب الكبير بهاء طاهر صراحة من أنه سابقا كان «الأكثر إلحاحا بالتليفون هو الأكثر حظا فى الفوز بالجائزة!» كان هدفنا أن تكون إجراءات التصويت لهذا العام على أكبر قدر ممكن من النزاهة والشفافية، وأن يكون هناك تكريس لمجموعة من الخطوات التى تسد الطريق على أى شكل من أشكال عدم الوضوح أو الالتفاف أو التسريب لنتائج التصويت وإعلان الفائزين، وهو ما يمكن أن يسد الطريق مستقبلا على تجاوز مثل هذه الخطوات.. نحن سعينا نحو وضع مجموعة من الضوابط التى تكفل الاستمرار فيما بعد وعدم تجاوزها فى الأعوام المقبلة. * ما تفسيرك للحركات الاحتجاجية والمظاهرات الفئوية التى اندلعت بالمجلس الأعلى للثقافة قبل نحو أسبوعين من الاجتماع الأخير للمجلس خصوصا أنها كانت مفاجئة وفى توقيت دقيق قبل الإعلان عن جوائز الدولة؟ ** أعتقد أن هذا الموقف له شقان، شق له علاقة بتراكمات عمل مؤسسات الدولة عبر عشرات السنين، والشق الآخر له صلة بالعلاقة الملتبسة بين الموظف والدولة، وهو ما يقتضى معالجة جذرية وحاسمة على مستوى الدولة كلها، وليس قطاع الثقافة فقط أو وزارة الثقافة أو المجلس الأعلى للثقافة وحده، وثمة إجماع أن عدد العاملين بأجهزة الدولة ليس هو العدد الفعلى المطلوب للقيام بالمهام والوظائف داخل هذه الأجهزة، هذا ليس معناه فصل هؤلاء الناس أو «تطفيشهم» من وظائفهم لأنهم ليسوا مسئولين عن هذا الوضع، إنما يقتضى الأمر النظر وبسرعة فى إعادة هيك?ة مؤسسات الدولة والتعاطى بجدية وعقلانية مع هذه المسألة، ومن ثم الشروع فورا، والآن وليس غدا، فى إجراءات حل هذه المشكلة. * وهل هناك تجارب أو نماذج يمكن اتباعها أو الاسترشاد بها فى حل مثل هذه المشكلات؟ ** هناك تجارب عديدة فى دول أخرى كثيرة اتبعت طرائق وأساليب ناجحة فى التعامل مع مثل هذه المشاكل، منها مثلا تشجيع العاملين بمجموعة من الحوافز والمساعدات المادية الملموسة لمن أراد الخروج مبكرا من الخدمة الرسمية، وأخرى لمن أراد أن يترك الوظيفة ويستقل بمشروع خاص، وهى فى النهاية حزمة من الإجراءات تؤدى إلى الالتحاق بالوظائف الرسمية بآليات وضوابط جديدة ومحددة تضمن العدالة والتكافؤ فى الفرص والاحتياج الفعلى لهذه الوظائف، كما تساعد من أراد الخروج من الوظيفة والاستقلال عنها بمشروع خاص أو ما شابه،ومجملا هى آليات لإعادة ت?تيب أوضاع جميع العاملين وتعديل أجورهم وتأمين مستحقاتهم. * ردود فعل متباينة أحدثها بيان رسمى صادر عنك فى منتصف يونيو الماضى..ما السياق الذى تم خلاله الإعلان عن البيان والتداعيات التى أعقبت الإعلان عنه وتفسيرك لما تم من أحداث؟ ** أنا أعلنت أننى لن أشارك فيما سمى بجلسة الحوار الوطنى حول «مستقبل الثقافة فى مصر» والتى كان من المقرر أن يعقدها الدكتور إسماعيل سراج الدين ، منتصف الشهر الماضى، وقلت بالحرف الواحد إن «مستقبل الثقافة فى مصر يحدده منتجو هذه الثقافة وليس رموز النظام القديم»، ووجهت دعوة صريحة إلى كل من عملوا مع جمال مبارك ولجنة سياسات الحزب الوطنى وساهموا فى سيناريو التوريث إلى اللحاق بزعيمهم والتنحى عن العمل العام، لكن يبدو أن بعض قيادات سيناريو التوريث لم يفهموا الرسالة بعد. وقلت أيضا إن مهمة تحديد مستقبل الثقافة فى مصر، بما فى ذلك مستقبل المؤسسات الثقافية، تقع على عاتق هؤلاء الذين يصنعون الثقافة، «هؤلاء الذين عملوا فى صمت، بكتاباتهم وإبداعاتهم، من أجل حماية شرف استقلال وتميز الثقافة المصرية، وناضلوا ضد قبضة الاستبداد وسيطرة الدولة، لا هؤلاء الذين شاركوا فى صناعة هذا الاستبداد ويحاولون الآن التسلل عائدين من باب ما يسمى ظلماً «الحوار الوطنى». بعدها حدث ما حدث من مظاهرات داخل المجلس ومطالبات كانت فى أغلبها مشروعة ويمكن التعامل معها ومعالجتها، لكن تم استغلال هذا بصورة أو بأخرى لبقاء الأوضاع مشتعلة وإثارة العاملين والموظفين بطرق غير مشروعة، لكن تم التعامل مع الموقف بما يقتضيه من وعى وبهدوء، والحمد لله أننا نجحنا فى توضيح الصورة للعاملين، وهم تفهموا الحقيقة فى نهاية الأمر، وعادت الأمور إلى وضعها الطبيعي. * ما هى السيناريوهات المطروحة حول دور المجلس الأعلى للثقافة خلال الفترة القادمة، والمقترحات المقدمة بشأن تطويره؟ ** بداية للإجابة عن هذا السؤال، يجب التأكيد على مجموعة من الحقائق التى تمخضت عنها المناقشات والحوارات التى ضمت عددا كبيرا من المثقفين من كل الاتجاهات والتيارات الفكرية، من خلال جلسات خاصة أو مفتوحة، حول الكثير من الأمور المتعلقة بالمجلس وإعادة هيكلته ومستقبله. أولى هذه الحقائق أن ثمة إجماعاً حقيقياً ??من الجماعة الثقافية على تحرير العمل الثقافى واستقلال مؤسساته عن سيطرة الدولة،? ?والقضاء تماما على ممارسات الإقصاء والاحتكار واستخدام المؤسسات العامة لمصالح شخصية،? ?وتحصين هذه المؤسسات ضد خطر عودة الاستبداد?. وثانيها أن للمجلس الأعلى للثقافة أدواراً? ?متعددة،? ?من بينها المحفز والحاضن والداعم للعمل الثقافي،? ?والعقل الجمعى الذى يرسم السياسات الثقافية ويبلور الرؤى الموجودة داخل الجماعة الثقافية،? ?والمنبر الذى تعبر من خلاله هذه الجماعة عن صوتها فى الشأن العام?. ?وثالث هذه الحقائق هو الرغبة فى أن يعكس المجلس تباينات الثقافات المصرية بألوانها،? ?من حيث هياكله وطريقة عمله،? ?ومن حيث الأشخاص الذين يقودون العمل فيه وطريقة اختيارهم?. ?واتفقت معظم الآراء على ضرورة ترشيد ومراجعة لجان المجلس ومهامها،? ?وعلى أفضلية اختيار أعضاء هذه اللجان من خلال ترشيحات تقدمها الجماعات والهيئات والشخصيات الثقافية،? ?وانتخاب أعضاء اللجان لمقرريها ولهيئة المجلس وللأمين العام?. ?وآخر عناصر الإجماع هو ضرورة احتفاظ المجلس بأدوات تمكنه من تنفيذ أدواره،? ?مثل الجوائز والنشر والتمويل،? ?وذلك لتحقيق أولويات السياسات الثقافية التى يبلورها هذا المجلس الجديد?.? * وما هى التصورات أو المقترحات التى من خلالها يمكن تحقيق هذه الأهداف والسعى لتنفيذها؟ ** فى رأيى،? ?فإن هناك أكثر من نموذج يمكنه تحقيق هذه الأهداف?. ?الأول أن يكون المجلس هو الهيئة العليا للثقافة فى البلاد،? ?وأن تلغى وزارة الثقافة?. ?وهذا نموذج قائم وناجح فى عدد من الدول. النموذج الثانى يظل المجلس فيه جزءا من وزارة الثقافة مع دعم استقلاله من خلال سيطرة الجماعة الثقافية على عملية تشكيل لجانه وهيئاته،? ?بحيث يصبح المجلس جسراً? ?للجماعة الثقافية داخل الوزارة?. ?الأمر الذى يمكن المجلس - والجماعة الثقافية التى تسيطر عليه - ?من المساهمة بفاعلية فى بلورة الرؤية الثقافية للدولة والسياسات التى تحققها والمشاركة فى تنفيذها?. ?وهذا النموذج أقرب للتصميم الأصلى للمجلس القائم قبل أن تعود الدولة فى أوائل الثمانينيات وتحكم سيطرتها عليه وعلى هيئاته?.? النموذج الثالث هو انفصال المجلس عن الوزارة وتحوله لأمر من اثنين?: ?إما أن يصبح برلماناً? ?للمثقفين يراقب عمل الوزارة دون أن يكون له مهام تنفيذية،? ?أو إلى هيئة تخطيطية ترسم الرؤى والسياسات وتنسق مع الوزارة وتتابع عملها فى محاولة لتنفيذ هذه الرؤى?. ?وفى رأيى فإن كلا الأمرين شر للمجلس ولمستقبل صنع السياسة الثقافية?. * واضح أنك تميل للإبقاء على تبعية المجلس لوزارة الثقافة مع اتخاذ الإجراءات والآليات التى تكفل استقلاله وتضمن تفعيل دوره بعيدا عن سيطرة الدولة؟ ** هذا صحيح، لأنه برأيي، هو النموذج الذى يحقق الأهداف التى نرجوها للمجلس، وهو أن يعاد تشكيله بحيث يتم اختيار كوادره وقياداته من جانب الجماعة الثقافية،? ?وأن يتم ترشيد ومراجعة لجانه وهيئاته وطريقة عمله،? ?مع بقائه جزءاً? ?من وزارة الثقافة يساهم فى رسم سياساتها وتطبيقها?. ?أى أن نجعله بمثابة حصان طروادة دائم للجماعة الثقافية داخل وزارة الثقافة?. ?وأيضا إن اتفقنا على أن أدوار المجلس تشمل تحفيز ودعم واحتضان العمل الثقافي،? ?فإن تحويله لهيئة شبه برلمانية ينحصر دورها فى المراقبة يصبح أمراً? ?بلا معنى،? ?وعلى كل حال ليس هناك ما يمنع المثقفين من إنشاء اتحاد أو جمعية تقوم بهذا الدور?. ?بمعنى آخر،? ?إن قيام المجلس بأدواره المنشودة يتطلب - بقاء?? ?بل وتطوير? -? ?قدرته على التدخل الفعلى فى عملية الإنتاج الثقافى وتوجيهها،? ?أى الحفاظ على طابعه التنفيذى?. ?ومن ناحية أخرى،? ?فإن تحويل المجلس لهيئة منفصلة عن وزارة الثقافة وموازية لها أمر محكوم عليه بالفشل،? ?فا?تنسيق بين هيئتين تتنازعان الاختصاص وتعكسان مصالح سياسية متباينة? ?-? ?وهو الحال هنا? - ?مستحيل عملياً? ?مهما سنت القوانين وقطعت العهود. * وهل تعكس هذه التصورات، وخصوصا النموذج السابق المطروح لتطوير المجلس، التغيرات بمصر بعد الثورة بما يشبع تطلعات ورغبات المثقفين فى استقلال المجلس؟ ** أنا أدرك حجم الرغبة فى فصل المجلس عن الوزارة بالكامل،? ?لكنى أيضاً? ?أدرك أن هذه الرغبة تذكيها جراح الماضى ولا تأخذ فى اعتبارها التغيير الضخم الجارى فى مصر?. ?ثمة ثورة قامت فى يناير،? ?والدولة التى نحاول بناءها ليست نفس الدولة التى انقضت?. ?نحن لا نبنى مجلساً? ?ثقافياً? ?لدولة مطلقة السلطات? ?غاشمة،? ?بل لدولة بها تداول للسلطة وانتخابات ورقابة شعبية?.