يبدو أنه لا مفر من الاعتراف بأن ثورة 25 يناير قد وقعت فى عدة أخطاء متتالية منذ أن أشعل شباب مصر شرارتها الأولى، كان أولها أنها لم تبدأ بالمطالبة بإسقاط النظام من اليوم الأول وحيث قصرت مطالبها على الإصلاح السياسى وتحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، بينما كان الخطأ الثانى أنها افتقدت إلى قيادة محددة ومعلنة منذ بدايتها وهو الأمر الذى لم يكن ممكناً تداركه بعد اتساع نطاقها وانضمام مختلف فئات الشعب إليها ونزول نحو (18) مليون مصرى إلى الميدان وميادين عواصم المحافظات والمدن المصرية.. مطالبين بإسقاط النظام ورحيل رئيسه. أما الخطأ الثالث والفادح فقد وقعت فيه الثورة فى لحظة انتصارها مساء يوم الجمعة الحادى عشر من فبراير بالإعلان عن تنحى حسنى مبارك وتولى الجيش إدارة شئون البلاد لمرحلة انتقالية مدتها ستة أشهر، حيث احتفل ملايين المصريين بما اعتبروه نجاحا للثورة ثم عادوا إلى بيوتهم.. تاركين الثورة بين أيادى أحزاب سياسية كرتونية متهالكة هى بكل المقاييس من بقايا النظام الفاسد إذ كانت جزءاً من نسيج ذلك النظام، وبين أيادى تيارات وقوى سياسية دينية محظورة قانونا وظهرت على السطح بفعل الشرعية الثورية وتسعى للسطو على ثورة لم تشارك فى صنعها وتريد الاستحواذ عليها! خطأ الثورة الآخر أو بالأحرى خطأ الذين كانوا فى طليعتها من الشباب الواعى المثقف من أبناء الطبقة المتوسطة صانعة التغيير فى كل مراحل التاريخ.. أنهم لم يكملوا نجاح الثورة وهو نجاح لم يتحقق ولم يكن ممكناً أن يتحقق إلا بالاستمرار فى الميدان.. ممثلين لجموع المصريين أصحاب الثورة وحيث كان لديهم ما يمكن تسميته بالتفويض الشعبى العام لاستكمال مسيرة الثورة وحتى يتم الاتفاق أو التوافق على الصيغة السياسية التى تكفل لصُنّاع الثورة المشاركة فى إدارة الثورة ومن ثم إدارة شئون البلاد خلال المرحلة الانتقالية.. حماية للثورة وضمانا لتحقيق كامل أهدافها ومطالبها.. وصولاً إلى إعادة بناء مؤسسات الدولة وإقامة نظام سياسى جديد وديمقراطى يقيم العدالة الاجتماعية ويتيح تداول السلطة سلمياً. إن الذين صنعوا أنبل وأكبر ثورة فى تاريخ مصر وأسقطوا النظام الفاسد وأطاحوا برئيسه ورموزه هم أصحاب الحق المشروع وبحكم الشرعية الثورية فى إدارة الثورة حتى يكتمل نجاحها، غير أن الذى حدث هو أن الشباب طلائع الثورة قد فاتهم إدراك تلك المهمة الوطنية الثورية فى نفس الوقت الذى اكتفى فيه الشعب صاحب الثورة بالاحتفال وتركها دون أن يطمئن على اكتمالها، وتلك سمة مصرية متوارثة «جينياً» عبر عصور التاريخ ليست فقط فى صناعة الثورات والتغيير ولكن فى كل مناحى الحياة، وحيث يفتقد المصريون القدرة على إتمام وإكمال العمل.. أى عمل لنهايته بنفس قوة وكفاءة وجودة بدايته وهو ما يعرف بال «Finish». ولذا فإن المأزق الذى واجهته الثورة -ولا تزال- هو إدارة هذه الثورة وبما يتفق مع فلسفة الثورات وغاياتها، حيث غابت أو تعطّلت آليات الشرعية الثورية عن العمل وعلى النحو الذى تباطأت معه حركة الثورة حتى أوشكت على التوقف فى مواجهة آليات وشراسة الثورة المضادة التى تحركها فلول النظام السابق، وهو الأمر الذى يهدد بعودة الأوضاع إلى المربع رقم (1) مرة أخرى ومن ثم فشل الثورة فى الاستمرار. تتبدّى أولى مظاهر هذا المأزق فى استمرار حالة الانفلات الأمنى وتصاعد ظاهرة البلطجة مع استمرار غيبة الشرطة، وهى الحالة التى تعكس خللاً فى إدارة الثورة لا يصلحه سوى تفعيل آليات الشرعية الثورية لتطهير وزارة الداخلية من رجال حبيب العادلى الفاسدين الذين لا تخفى مسئوليتهم عن ظاهرة البلطجة وانفلات الأمن؛ وإلى جانب هذا التطهير فإنه يلزم إعادة تشكيل وهيكلة الأجهزة الأمنية والشرطية وفقاً لفلسفة وعقيدة أمنية جديدة مختلفة تمام الاختلاف عن سابقتها، مع ملاحظة أن ممارسة الشرطة واستخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين من أهالى الشهداء يوم الثلاثاء الماضى بحسب تقرير مجلس حقوق الإنسان قد أكدت أنه لم يطرأ أى تغيير على نهج الشرطة السابق، وهو الأمر الذى يجعل إعادة هيكل وتشكيل أجهزة الأمن مطلباً ملحاً وعاجلاً وضرورياً. وفى نفس الوقت فإن التلكؤ والتباطؤ فى محاكمة رئيس النظام السابق ورموزه المحبوسين احتياطياً فى قضايا الفساد المالى وتهريب ونهب الثروات وقتل المتظاهرين.. هذا التلكؤ يعد فى حقيقة الأمر أخطر مظاهر المأزق الذى تواجهه الثورة ويكاد يفرغها من مضمونها ويهدر مطالبها وبما يثير الكثير من الغضب لدى أهالى الشهداء بقدر ما يبدو صادماً للرأى العام ومحبطاً لجموع المصريين. وإذا كان قرار محكمة الجنايات يوم الاثنين الماضى بإخلاء سبيل ضباط الشرطة المتهمين بقتل المتظاهرين فى مدينة السويس قد بدا صادماً بالفعل بقدر ما أغضب أهالى الشهداء وشعب السويس ودفعهم لقطع طريق القاهرة - السويس الصحراوى احتجاجاً على هذا القرار، فإن صدمة الرأى العام الأكبر تجلّت بعد صدور أحكام قضائية ببراءة (6) متهمين من رموز النظام السابق من بينهم الوزراء الثلاثة.. يوسف بطرس غالى (الهارب) وأحمد المغربى وأنس الفقى من تهم التربح وإهدار المال العام، وهى الصدمة ذاتها التى أصابت أعضاء النيابة العامة الذين تولوا التحقيقات فى تلك القضايا، وهى الصدمة التى خفّف من وقعها قليلاً قرار النائب العام وقت كتابة هذه السطور بالطعن على تلك الأحكام بالبراءة وإعادة المحاكمة أمام دائرة أخرى باعتبار أن هذه البراءة لا تتفق مع أدلة الاتهام التى توافرت فى التحقيقات. *** إن المشهد السياسى الراهن وبعد ستة أشهر من سقوط النظام الساق وبكل ما جرى ويجرى - بل بكل ما لم يجر أيضاً -لايزال مقلقاً ومحبطاً، إذ لايزال نهج النظام السابق فى الإدارة باقيا ومستمرا فى كل المواقع فى الدولة، وإذ لايزال أتباع وأنصار ذلك النظام والمنتقعون به موجودين فى أماكنهم.. متربصين بالثورة.. ساعين إلى إخمادها وإفشالها وإشاعة أجواء الاضطراب وعدم الاستقرار. وسوف يبقى من بين أخطاء الثورة أيضاً بل من بين المخاطر التى تهددها أن حركة تطهير واسعة لاستئصال جذور النظام السابق لم تتم حتى الآن، وهو إجراء منوط وفى المقام الأول بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة باعتباره من صميم تعهداته بحماية الثورة وأنه الضامن لنجاحها وتحقيق مطالبها. *** إن دواعى الوطنية تقتضى التأكيد مجدداً على أن إدارة الثورة مازالت غير ناجحة، وأن نجاحها ضرورى لنجاح الثورة، بل إن انتهاء المرحلة الانتقالية بتسليم حكم البلاد لسلطة شرعية مدنية منتخبة سوف يظل مرهونا بنجاح إدارة الثورة. ثم إن نجاح إدارة الثورة ونجاح الثورة بالتالى يتطلب ثلاثة إجراءات ثورية واجبة وضرورية.. أولها استعادة الأمن وإعادة تشكيل أجهزة الشرطة، وثانيها تسريع محاكمات رئيس النظام السابق وكل رموزه وأركانه، وآخرها - وإن كان لا يقل أهمية - تطهير البلاد من بقايا ذلك النظام. *** بعد ستة أشهر من تنحى الرئيس المخلوع ومع الغموض الذى يكتنف وضعه بصفة عامة واحتمالات وجدِّية محاكمته بوجه خاص، وبقراءة كل ما سبق ذكره فى هذه السطور، فإن ثمة مخاوف حقيقية من أن النظام السابق قد سقط - وإن بقيت جذوره - ولكن الثورة لم تنجح بعد!