إذا كانت أبسط قواعد المنطق تقول إن المقدمات عادة ما تؤدى إلى النتائج.. فإن ما حدث يوم الثلاثاء الأسود 28 يونيو من جنون وانفلات أمنى وفوضى يفتقر لأبسط هذه القواعد؛ لأنه حدث فجأة دون أية مقدمات منطقية أو غير منطقية.. فاحتفال تقليدى صغير بأُسر شهداء الثورة فى مسرح البالون بحى العجوزة الهادئ لم يكن أبداً بداية منطقية تبرر أحداث الشغب والبلطجة التى امتدت بسرعة كالنار فى الهشيم لمناطق أخرى مختلفة فى ماسبيرو.. وميدان التحرير.. وأمام مبنى وزارة الداخلية. و كل من تابع تفاصيل سيناريو يوم الثلاثاء الأسود، وما تلاه يجده صورة طبق الأصل من سيناريو يوم الأربعاء الأسود الشهير بموقعة الجَمل، بكل تفاصيله وشخوصه وأهدافه الخسيسة.. مع اختلاف بسيط.. وهو استخدام الموتوسيكلات بدلاً من الجِمال والخيل والبغال والحمير..! فمن مسرح البالون بالعجوزة إلى ماسبيرو لشارع الشيخ ريحان حيث مقر وزارة الداخلية وحتى ميدان التحرير كانت كل المشاهد تصرخ لتؤكد لكل ذى عينين يرى، وكل ذى عقل يعقل، أن هناك مؤامرة حيكت خيوطها بليل لضرب استقرار هذا البلد، وإجهاض ثورته النبيلة، وأن المتآمرين حددوا موعد صدور قرار محكمة القضاء الإدارى بحل المجالس المحلية كساعة صفر لإطلاق جحافل وميليشيات الحزب الوطنى من البلطجية وأصحاب السوابق لتثير الرعب والذعر والفوضى متسترين تحت لافتة نبيلة وهى القصاص لدم شهداء الثورة..! وعلى الرغم من أن التحقيقات مازالت فى بدايتها فإن كل الشواهد تؤكد أن فلول النظام السابق وبعض رجال الأعمال المستفيدين منه وراء هذه المؤامرة.. وكان هدفهم أن تخرج شرارة الثورة المضادة من ميدان التحرير.. كما ولدت ثورة يناير المباركة من رحم الميدان العريق..! كما تزامن تنفيذ المؤامرة مع بدء عودة رجال الشرطة إلى الشارع لحماية أمنه وأمانه، وكأن مخططى المؤامرة لا يريدون لهذا البلد أن يهدأ ويستقر ويعيش فى أمن وأمان..! وإذا جاز لى الحكم على إدارة وزير الداخلية للأزمة، منذ توليه المسئولية وحتى الآن، فإننى أعتقد أنه فشل فى إدارة الأزمة.. للعديد من الأسباب أولها أنه لم يقم بعملية التطهير الشاملة لجهاز الشرطة، كما أنه لم يتعامل مع البلطجية والهاربين من السجون بالحزم المطلوب رغم أن قانون الطوارئ يطلق يده ويعطيه الحق فى أن يفعل ما يشاء مع الخارجين على القانون..! وأنا شخصياً أرى أن المسئولية ثقيلة ويجب ألا يتحمل الرجل وحده مسئولية ملف خطير كالملف الأمنى.. فعودة الأمن للشارع هى مسئولية مجتمعية تتشارك فيها الحكومة ومنظمات المجتمع المدنى.. والأحزاب والمواطنون بمختلف طوائفهم وتوجهاتهم. ولذلك أرى أن منصب وزير الداخلية يجب أن يتولاه سياسى محنك لديه رؤية وبصيرة، ولا يشترط أن يكون من داخل جهاز الشرطة.. بل يمكن أن يتولاه عسكرى أو مدنى.. رجل أو امرأة.. المهم أن تكون لديه أو لديها، مواصفات خاصة ورؤية سياسية لإدارة هذا المرفق الخطير..! وقد يسألنى سائل: وهل يجوز أن يتولى وزارة الداخلية مدنى لم يدخل كلية الشرطة ولم يلف أقسام البلد كعب داير.. ولم «يتمرمط» فى دهاليز أمن الدولة..؟! أرد وأقول: نعم.. فوزارة الداخلية فى بريطانيا مثلاً تولاها وزير كفيف.. نعم كفيف اسمه ديفيد بلانكيت.. كان كفيفاً، لكن كانت لديه «رؤية» لكيفية إدارة وزارة بحجم وزارة الداخلية.. وهو بالمناسبة تولى قبل الداخلية وزارة التعليم.. وظل وزيراً من عام 1997 وحتى نهاية عام 2004..!! إن الأمر فى تقديرى لا يحتمل أى تأجيل.. فملف الأمن هو ملف حاكم؛ يؤثر على جميع نواحى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. لذلك أرى ضرورة التعامل معه بسرعة وحزم وأن نتوافق جميعاً على سُبل إدارة هذا الملف، وأن يتولى أحد الرجال المشهود لهم بالكفاءة وزارة الداخلية.. ويعيد هيكلتها وتنظيمها.. ويضع يده على مواطن الخلل ومواطن القوة. فالمطلوب إعادة بناء جهاز الشرطة.. حتى يضطلع بدوره المطلوب فى ضبط الأمن والنظام فى الشارع المصرى. وإعادة البناء تستلزم التطهير.. فلابد من استبعاد العناصر الفاسدة والقيادات التى لن أقول إنها طابور خامس، لكنها على الأقل لم تكن على قدر المسئولية التى حملها لها الشعب. إننا لا نعلم ماذا يدور داخل جدران وزارة الداخلية، ولا داخل جدران مبنى جهاز أمن الدولة المنحل، والذى تغير اسمه إلى جهاز الأمن الوطنى.. لكننا على يقين من أن هناك قدراً كبيراً من الارتباك يدور داخلهما؛ لأن هذا ينعكس بوضوح على حالة الأمن المتردية فى بر مصر؛ والتى يزيدها أعداء الداخل والخارج تردياً بالمؤامرات والدسائس التى يستهدفون بها أمن واستقرار هذا الوطن.. رد الله كيدهم فى نحورهم.