يرى الناس - وقد يكون لديهم حق فيما يرون - أن بركة الزمن انتزعت وذهبت مع الطيبين، فلم نعد قادرين على عد الأيام أو تمييز كر الليل والنهار، حتى تحسب أن الأمر مر عليه أسابيع أو شهور بالكثير، فتفاجأ عندما تحصى ما فات من الزمن فتجده أعواما وسنين كثيرة. أتذكر كأنني طالعت بالأمس القريب تشكيل وزارة د. أحمد نظيف الثانية، فهتفت: «وزارة التوريث».. الوزارة التى سوف تحمل على أجنحتها جمال مبارك إلى الحكم، وبعد ساعات صدرت الصحف المصرية المعارضة تحمل ما هُتفت به عناوين صحفها.. هذه الواقعة مر عليها الآن ما يقرب من خمس سنوات ونصف.. فقد صدر القرار الجمهوري رقم 424 بتشكيل الوزارة الثانية للدكتور أحمد نظيف فى 30-12-2005 وانتهي عمرها بفعل الثوار فى 25 يناير 2011 لينتقل د. نظيف وعدد من وزرائه الذين شاركوه الحكم عبر وزارتين من كراسيهم الوثيرة إلى «بورش» الزنازين. -1- وعلى خلاف وزارات كثيرة سابقة لم يتدخل مبارك رئيس الدولة كثيرا فى تشكيل هذه الوزارة إلا فى حقيبتين أو ثلاث لأسباب شخصية مثل ترضية بعض المقربين من بيت الحكم أو من قبيل سداد الفواتير مقابل خدمات قُدمت للنظام، مثلما حدث فى التعديل الوزارى المحدود اللاحق على تشكيل هذه الوزارة، وفيما عدا ذلك فإن وزارة نظيف التى قامت عندها ثورة 25 يناير نفذت مهمة محددة كانت مطلوبة منها لتصل بالأمور فى مصر إلى درجة الغليان وبالتالى الانفجار. وإذا ما رجعنا إلى المؤهلات العلمية والوظيفية التى تم من خلالها اختيار الوزراء فى وزارتى د.أحمد نظيف الأولى والثانية بغض النظر عن التعديل الوزارى المحدود الذى أُجرى على الوزارة الثانية فسوف نكتشف أن الغالب على طبيعة «المستوزرين» بداية من رئيسهم هو تمتعهم بخلفية علمية غربية؛ على سبيل المثال فرئيسهم أحمد نظيف درس لدرجة الدكتوراة فى جامعة مكجيل الكندية، وكذا حصل د. محمود محيى الدين وزير الاستثمار فى الوزارة المعنية على درجة الدكتوراة فى اقتصاديات التمويل من جامعة وارويك الإنجليزية، وكان قد سبقها بالحصول على درجة الماجستير من جامعة يورك الإنجليزية أيضا، بينما حصل يوسف بطرس غالى على دكتوراته من معهد ماساتشوستس الأمريكي، وحصل أحمد درويش وزير التنمية الإدارية من جامعة كاليفورنيا ديفز الأمريكية أيضا على درجة الدكتوراة. هؤلاء الوزراء الذين اختاروا أن يدرسوا ويحصلوا على أعلى الدرجات العلمية من الغرب الأوروبي، كانوا أيضا يحملون فى السيرة الذاتية الخاصة بهم ألقاباً وصلات وظيفية تربطهم بمؤسسات الغرب العولمية التى تسعى إلى ترسيخ الفكر الرأسمالى فى حده الأقصى أى تصل به إلى ما تؤمن به الإمبريالية العالمية، وينتظمون فى مصر بكيانات خصصت لإعداد أمثالهم ترعاها الدوائر الأمريكية مثل المركز المصرى للدراسات الاقتصادية مفرخة الوزراء فى السنوات الأخيرة. ولم يكن الوزراء الذين ذكرتهم آنفا ويمثلون فى أغلبهم المجموعة الاقتصادية هم الذين يؤمنون بتغيير مصر ودفعها إلى ما تؤمن به الليبرالية فى الجانب الاقتصادى منها على الأقل، ولكن كانت هناك مجموعة أخرى تمارس هذه السياسة من خلال خلفية عملية تتعلق بأعمالها واستثماراتها الخاصة وخبرتها فى اقتصاديات السوق على الطريقة الرأسمالية مثل الوزراء رشيد محمد رشيد، وأحمد المغربي، وحاتم الجبلى. -2- وفى العقد الأخير أو فى الوزارتين الأخيرتين لنظام مبارك على وجه الدقة، كانت الأمور تبدو وكأن دائرة اختيار الوزراء تضيق إلى حد كبير، لكن المتابع المدقق كان يمكنه أن يلمح ظل شبح خفى يحرك الأمور من خارج المسرح لاختيار وزراء بعينهم، والحالة الصارخة فى هذا الأمر هى حالة يوسف بطرس غالى الذى مثّل حالة نادرة فى تاريخ الوزارات المصرية حين كان يخرج فاشلاً من وزارة الاقتصاد فيخترعون له وزارة جديدة يطلقون عليها وزارة التجارة الخارجية، فلا يحقق فيها إلا فشلا جديداً فيمنحه مجهول وزارة المالية التى تمثل خزانة الدولة، ليغادرها هارباً إلى الغرب وقد ارتفع بديون مصر الخارجية إلى ما يزيد على 35 مليار دولار هذا غير ما يقرب من 160 مليارا أخرى ديوناً داخلية تستحق (الدين الخارجى والداخلي) ما يزيد على 150 مليار جنيه فوائد سنوية. أما المثال الثانى وهو صارخ أيضاً، فيمثله د. محمود محيى الدين وزير بيع مصر وتفكيك مؤسسات الدولة، وصاحب مشروع صكوك الملكية الشعبية أو كوبونات الخصخصة هذا المشروع العجيب الذى أراد أن يتخلص فيه مما تبقى من أصول اقتصادية تملكها الدولة ويضحك على المصريين بتوزيع سندات مالية متهافتة مقابل هذه الأصول لعلها تدخل عليهم الفرح والسرور، وقيل ضمن ما قيل فى تفسير هذه التخريجة العجيبة إنها للتخديم على مشروع التوريث، فيما أظن أن الأمر كان أبعد من هذا ولم يكن يعنى فى مداه الأخير إلا التخلص النهائى من سيطرة الدولة على الأصول الاقتصادية لها ودفعها فى أيدى الخاصة لسهولة تحريكها فى المستقبل إلى أى اتجاه يراد لها، خاصة وأن هذا المشروع الذى طرحه الوزير السابق جاء فى توقيت كان قطار الخصصة فيه قد تباطأ أو توقف تقريباً. ويجىء الفصل المثير فى سيرة محمود محيى الدين يتمثل فى إخراجه من مصر وسحبه إلى الغرب مديرا للبنك الدولى فى شهر أكتوبر2010 أى قبل 4أشهر تقريبا على تفجر الأوضاع فى الداخل.. فهل كانت الدوائر التى فرضت د. محيى الدين وزيرا للخصخصة تسحب رجلها فى الوقت المناسب لتنجو به؟! فكر معى فى إجابة السؤال. -3- فى السنوات الأخيرة لحكمه كان مبارك قد انسحب فعليا من القيادة وترك أمرها تقريبا لابنه والمجموعة التى التفت حوله وخاصة الوزراء الذين كانوا يقاربونه فى السن والتفكير والتوجهات أو هؤلاء الذين أقنعوه هو وأبيه الرئيس بأنهم ينفذون خطط إصلاح ضخمة على المستوى السياسى والاقتصادى، وأقصد هنا مجموعة الوزراء الليبراليين المشار إليهم ونظرائهم فى الليبراليين من المنظّرين والأيديولوجيين القابعين فى لجنة السياسات، وأبرزهم فى رأيى د.على الدى هلال ود.عبد المنعم سعيد، وكان الغرور والغطرسة قد أخذت بالوريث وشلة الأغرار التى التفت حوله إلى أن يصموا آذانهم وأبصارهم عن الصرخات والإشارات التى تنبئ بل تعلن أن الدولة المصرية تسير فى الاتجاه الخطأ، وأن الضغوط التى تمارسها المؤسسات الاقتصادية العالمية مثل البنك الدولى وصندوق النقد الدولى وحتى السفارة الأمريكية فى القاهرة كلها تدفع بشدة نحو الإسراع بتنفيذ مشروعات الخصخصة وبيع البنوك الوطنية والتركيز على مشروعات بعينها مثل الاستثمار فى القطاع العقارى الفاخر وتشجيع اقتصاد ريعى كاذب يترجم إلى معدلات نمو غير حقيقية لا تعود على مجموع الشعب المصرى بعائد حقيقي، يقابل هذا فى الاتجاه الآخر التحريض بتشجيع حركات الاحتجاج الاجتماعية واستخدام سلاح الإعلام الخاص لفضح التدهور الشامل للأوضاع الاقتصادية ليلتقى الطرفان فى النهاية، الشعب والنظام، فى لحظة قاسية يحدث عندها الانفجار وحرث الأرض للتأسيس للديمقراطية الشعبية التى تأتى بالنخب الليبرالية والعلمانية للحكم أو تلك التى يمكن أن تقبل بالوجود الإسرائيلى والتطبيع معه وإعادة رسم خريطة جديدة للنظام الإقليمى فى منطقة الشرق الأوسط. -4- هذا باختصار هو المخطط وهذه هى كرامة المصريين التى انتهكت فقامت عندها وبسببها الثورة، فالكرامة لا تتجزأ وليست فقط ديكتاتورية الحاكم أو النظام تنتهك الكرامة ولكن أيضا قسوة الفقر والعوز والحاجة التى دفعت بآلاف المصريين إلى الشوارع للتسول واضطر آلاف النساء لتغطية وجوههن بالنقاب حتى لا يفتضح أمرهن بعار التسول حين يعرفن من غير غطاء الوجه فلا فلا كرامة مع مسبغة أو فاقة أو أنات أطفال صغار يتضورون أمام ذويهم جوعا أو يتألمون مرضاً. وهاهى ذى الأيام قد دارت ومثُل أكثر الذين ظلموا هذا الشعب أمام القضاء يحاكمون جنائيا بتهم قتل النفس والفساد المالي، لكننا حتى الآن لم نعقد المحاكمة السياسية المطلوبة لهؤلاء ليفهم المجتمع الأسباب التى صدرت عنها أفعالهم لنتجنبها فى المستقبل على الأقل.