جاء قرار دولة قطر الذى أعلنه الدكتور خالد العطية وزير التعاون الدولى فى اجتماعات اللجنة الوزارية المصرية القطرية الأسبوع الماضى بالقاهرة بضخ استثمارات قيمتها عشرون مليار دولار فى مشروعين مصريين.. الأول ميناء بورسعيد والثانى ميناء الملاحات بالإسكندرية.. توفر مليونا ومائتى ألف فرصة عمل.. جاء هذا القرار ليعكس فى واقع الأمر حسًا سياسيًا قوميًا عربيا لا تخفى دلالته، بقدر ما بدا مبادرة طيبة لا تخفى أهميتها وصدقيتها التى تعكس التقدير والمؤازرة فى آن واحد من جانب قطر وأميرها الشيخ خليفة بن حمد تجاه مصر وشعبها بعد ثورة 25 يناير. هذه الاستثمارات الضخمة تتبدى دلالتها المهمة بالنظر إلى قيمتها وحجمها، إذ أن رقم العشرين مليار دولار الذى يعد الأكبر على الاطلاق مقارنة بما سوف تحصل عليه مصر من أية جهة والذى تقدمه قطر منفردة يساوى فى الحقيقة إن لم يزد على مجموع ما تعهدت الدول الأخرى.. عربية وغير عربية بتقديمه لمصر فى شكل مساعدات وقروض ودعم للخزانة والموازنة الحكومية. ومما يزيد من أهمية وقيمة وأفضلية هذا الدعم القطرى أنه ليس مساعدات أو قروضاً يجرى استهلاكها فى سد أوجه الإنفاق المختلفة بينما تتحمل الأجيال الحالية والقادمة فوائدها وأعباءها الثقيلة المتراكمة، ولكن هذا الدعم القطرى استثمارات يجرى ضخها فى شرايين الاقتصاد المصرى ومن ثم فإنها تسهم فى تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية. هذا هو الفارق المهم والواضح بين العشرين ملياراً استثمارات قطرية وبين ما تنتوى الدول الأخرى تقديمه، فإذا بدأنا بالرقم الأكبر وهو ما يخص مصر من إجمالى عشرين مليار دولار (قد يكون نصفها أو أكثر قليلا) الذى تعهد قادة الدول الثمانى الكبار فى اجتماعهم الأسبوع الماضى فى «دوفيل» بفرنسا بتقديمها إلى كل من مصر وتونس وعلى مدار السنوات المقبلة، فإن هذا المبلغ سيكون أولاً فى شكل قروض ومساعدات وليس استثمارات، وثانياً فإن الجدية فى التنفيذ الفعلى والوفاء الحقيقى بهذا التعهد تبقى مثار شك كبير فى حصول مصر على هذا الدعم كاملاً أو حتى على جزء منه، وثالثاً فإن هذا الدعم مشروط بتحقيق إصلاحات ديمقراطية سياسية وإقتصادية، وهى مسألة نسبية قد تختلف وتتباين بشانها وجهة النظر المصرية مع وجهة النظر الغربية. وبينما بدا أغلب الدعم العربى النفطى الآخر غائبا والبعض الآخر دون المستوى المرجو.. حجما وشكلا ومضمونا وهو أمر يبدو فى الحالتين أنه لا يتفق مع ما يفرضه الالتزام القومى تجاه الشقيقة الكبرى ولا يتناسب مع أهمية الدور المصرى التاريخى تجاه قضايا الأمة العربية، فإن الدعم الذى قالت واشنطن إنها ستقدمه لمصر دعماً للثورة وللتحول الديمقراطى بدا لغزا حسابيا لا يمكن لغير خبراء الاقتصاد فك طلاسمه، حيث تحير غير الاقتصاديين فى فهم حسبة «برما» الأمريكية حول هذا الدعم الذى تاهت حقيقة حجمه ما بين مساعدة يجرى خصمها من المعونة أو قرض يخصم من الديون، وبقى هذا الدعم خدعة على الطريقة «الأمريكانى» إذ لم تقدم الولاياتالمتحدة شيئاً ذا قيمة لمصر رغم إشادتها وإشادة الرئيس أوباما ذاته بثورة 25 يناير. وبينما وافق البنك الدولى على تقديم قرض لمصر قيمته 2.2 مليار دولار لدعم الموازنة للسنتين الماليتين القادمتين، فإن المليارات الثلاثة التى وافق الصندوق الدولى على تقديمها لمصر هى أيضاً قروض لها أعباؤها حتى لو كانت ميسرة، ثم إن حصول مصر عليها حسبما أوضح الدكتور سمير رضوان وزير المالية يأتى فى إطار حق مصر فى الحصول على ضعف حقوق السحب الخاصة بها بوصفها عضوا فى الصندوق. بهذه المقارنة بين حجم الاستثمارات التى ستقدمها قطر لمصر وبين قيمة وأشكال الدعم الأخرى، يتضح جليا أهمية وصدقية المؤازرة القطرية للشعب المصرى بعد الثورة والتى يؤكدها انعقاد اللجنة الوزارية المشتركة بالقاهرة برئاسة وزيرى التعاون الدولى فى البلدين، حيث تم الاتفاق على خطة التعاون الاستثمارى والتجارى فى المرحلة المقبلة وهو الأمر الذى بدا نقلة نوعية متميزة وكبيرة فى علاقات البلدين. وإذا كانت الدكتورة فايزة أبو النجا رئيسة الجانب المصرى فى اجتماعات اللجنة المشتركة قد وصفت تشكيل وفد قطر رفيع المستوى برئاسة نظيرها الدكتور خالد العطية بأنه أكبر وأعلى البعثات التى زارت مصر منذ سقوط النظام السابق، فإن انعقاد اللجنة فى حد ذاته وما تم الاتفاق عليه خلال اجتماعاتها ليؤكد بالفعل حسبما قالت الوزيرة فايزة بداية صفحة جديدة فى العلاقات بين مصر وقطر. الأمر الآخر الذى يؤكد جدية وصدقية الدعم والمؤازرة من جانب قطر هو إصرار الدكتور العطية على تسمية اللجنة الوزارية المشتركة بالتنفيذية، وهى تسمية لها دلالتها والتى أوضحها الوزير القطرى بأنها لضمان تجنب أخطاء النظام السابق فى مصر والذى اكتفى بأن يكون التعاون مع قطر على الورق وأمام عدسات الإعلام فقط! هذه الجدية والصدقية بشأن زيادة التعاون الاستثمارى بين البلدين على أرض الواقع وليس على الورق.. تبدّت عمليا فى اتفاق الجانبين على وجود آليات تنفيذية تراقب تنفيذ خطط ومشروعات الاستثمارات والاتفاقيات المشتركة، وكان أولها تأسيس مكتب خاص فى الهيئة العامة المصرية للاستثمار برئاسة رئيس الهيئة للتعاون مع المستثمرين القطريين وتذليل جميع العقبات التى تواجههم. *** فى الصفحة الجديدة لعلاقات مصر وقطر تتراءى فى سطورها التالية للعشرين مليار دولار استثمارات ملامح مشروعات تعاون مشترك متعددة بتعدد المساهمات القطرية فى دعم وتنفيذ الكثير من المشروعات المصرية، حيث رصدت قطر - حسبما أعلن وزيرها للتعاون الدولى - مليارى دولار لشراء سندات خزانة مصرية بواقع 500 مليون دولار سنويا ولمدة أربع سنوات بهدف تحفيز الاقتصاد والسوق المالية المصرية، وفى نفس الوقت فقد وافقت قطر على دعم مشروع بناء مليون وحدة سكنية منخفضة التكاليف للشباب على مدار خمس سنوات إضافة إلى المشاركة فى مشروعات مياه الشرب والصرف الصحى. وفى الصفحة الجديدة للعلاقات المصرية القطرية يمتد التعاون إلى آفاق أوسع وأرحب بموافقة قطر على الدعم والمشاركة فى تنفيذ المشروع المصرى للنهضة العلمية والتكنولوجية الذى يشرف عليه العالم المصرى الحائز على جائزة نوبل د. أحمد زويل، وهو تعاون يعكس رؤية مستقبلية مهمة وضرورية لدخول العرب جميعا من خلال مصر وقطر إلى عالم التكنولوجيا المتقدمة والتى تعد قاطرة وحيدة لا ثانى لها للنهضة المصرية والعربية والتى باتت ضرورة للحياة فى عالم اليوم. الجديد والمهم والذى بدا استشرافا للمستقبل هو اتفاق مصر وقطر على الاستثمار المشترك فى القارة الأفريقية.. تجاوبا مع ما أبداه د. خالد العطية من رغبة بلاده فى دخول السوق الأفريقية عبر البوابة المصرية وهو ما يمثل خطوة استراتيجية بالغة الأهمية لمصلحة البلدين، خاصة أنه يجرى تنفيذها من خلال آلية صندوق استثمارات مشترك وعلى النحو الذى يضمن تفعيل ونجاح هذا التعاون الاستثمارى والذى تم الاتفاق على أن يبدأ ويتركز بدرجة كبيرة فى السودان بحكم خصوصية العلاقات المصرية السودانية. كما تأتى دعوة الدكتور العطية خلال اجتماعات اللجنة المشتركة للشركات المصرية لدخول السوق القطرية تنفيذاً لتعليمات الشيخ حمد خليفة أمير قطر بفتح الأبواب أمامها فى جميع مجالات الاستثمار.. تأتى هذه الدعوة لتؤكد مجددا صدقية التوجه القطرى لمؤازرة ودعم مصر وهو التوجه الذى تحقق فعليا بإعلان الوزير القطرى عن دعوة رئيس لجنة تسيير ميناء قطر الجديد للشركات المصرية المتخصصة فى مجال المقاولات والتشييد والبناء لتنفيذ مشروع هذا الميناء وتجهيزاته. لقد كان من المفارقات العربية المثيرة أن تعلن السعودية عن قرار مفاجئ بإنهاء إقامة العمالة الأجنبية التى مضى على إقامتها أكثر من ست سنوات، وهو القرار الذى جاء صادما للمصريين باعتبار أنه يعنى عودة أكثر من مليون ونصف المليون مصرى من العاملين بالسعودية، ومن ثم تصدير أزمة اقتصادية لمصر فى هذه الظروف الصعبة بعد الثورة، ورغم مسارعة السعودية إلى نفى صدور مثل هذا القرار وأن ما حدث سوء فهم والتباس غير مقصود، إلا أنه يبقى وحسبما فهم المصريون رسالة لها مغزاها وسيفا مسلطا للضغط على مصر بعد إسقاط النظام السابق. غير أنه يحسب لدولة قطر فى المقابل أنها فى الوقت الذى تلوح فيه السعودية بورقة العمالة المصرية، قد أعلنت وهى الأقل دخلاً وثراء نفطيا وسكانا والأصغر مساحة عن استعدادها لاستيعاب 250 ألف مصرى من مختلف التخصصات والخبرات وهو رقم مرشح للزيادة فى ضوء ما أعلنه وزيرها للتعاون الدولى من توجه استراتيجى لبلاده لفتح الباب أمام المزيد من العمالة المصرية والتى وصفها بأنها تحظى بالسمعة الطيبة فى قطر. *** حقا لقد بدأت صفحة جديدة فى العلاقات بين مصر وقطر سوف تنعكس آثارها الايجابية قريبا على شعبى البلدين وعلى المنطقة العربية كلها.