«المتغطى بالأمريكان عريان» هذه المقولة ثبتت صحتها المرة تلو الأخرى فالأمريكان تخلوا عن «صديقهم» مبارك مثلما تخلوا من قبل عن عزيزهم بن على وحليفهم شاه إيران. ويخطىء من يعتقد بأن الإنذار الذى وجهه أيزنهاور لكل من فرنسا وانجلترا وإسرائيل بعد عدوان 1956 كان حباً فى مصر أو من أجل عيون عبد الناصر فالمصلحة الأمريكية فوق كل شىء ومن أجلها تتم التضحية بأى من كان. لم ولن تكون هناك علاقة بين الإدارة الأمريكية والشعب المصرى فعلاقتهم تكون دائماً مع النظام. هم كانوا مرتبطين بالنظام المصرى وكذلك حالهم مع جميع بلدان الشرق الأوسط فيما عدا إسرائيل ولذلك فإن رأيهم دائماً ما يكون مبنياً على مصلحتهم المجردة وبمعزل عن الشعب الذى اكتشفوا الآن أن عليهم إعادة اكتشافه. وقد جاءت الثورة المصرية فى 25 يناير الماضى لتضع العلاقة بين مصر والولاياتالمتحدة فى مأزق حقيقى ذلك لأن الثورة رفعت شعارات مثل الحرية والديمقراطية وطالبت بإسقاط حاكم تعتبره دكتاتوراً. ولم يكن ما دعت إليه الثورة يتعارض مع مبادىء الحرية والديمقراطية التى تتشدق بها أمريكا. لكن الولاياتالمتحدة فى هذه المرة أيضاً اتخذت مواقف لا علاقة لها بالقيم التى تنادى بها وإنما بتطور الأحداث على الأرض. قام الأمريكيون باستخدام مفردات مثل «الآن» و«فوراً» و«على وجه السرعة» وبصورة تحمل إملاء لا يقبل به مؤيدو مبارك ولا حتى معارضوه لأنها تحمل تدخلاً فجاً وبعيداً عن اللياقة فى الشئون الداخلية لبلد له سيادته. أرسلت الولاياتالمتحدة سفيرها السابق فى القاهرة فرانك ويزنر إلى مصر بسبب علاقاته القوية مع المسئولين من أجل المساعدة فى إيجاد مخرج للأزمة المصرية لكن تصريحات ويزنر بضرورة أن يبقى الرئيس مبارك بعضاً من الوقت فى السلطة حتى يتمكن من المساعدة فى إيجاد حل للأزمة أوجدت حرجاً للولايات المتحدة خاصة عندما تبينت علاقات ويزنر الاقتصادية مع النظام فى مصر فقد أوضحت «الإندبندنت» البريطانية أن ويزنر يعمل مع شركة «باتون بوجز» القانونية التى تتعاون مع نظام مبارك. وعاد ويزنر إلى الولاياتالمتحدة بعدما أثارت تصريحاته قلقاً فى أوساط الإدارة الأمريكية وهو ما دفع السيناتور جون كيرى لأن يقول إن تصريحات ويزنر لا تعكس موقف الإدارة الأمريكية وأنها لا تعبر عن الرسالة التى طُلب إليه أن يبلغها للإدارة المصرية. ورغم ذلك ظلت التصريحات الأمريكية بشأن الوضع فى مصر متضاربة بين المطالبة بأن يحدث تغيير فى مصر وبين أن يبقى الرئيس مبارك فى موقعه حتى يحقق هذا التغيير.. ووسط كل التصريحات الأمريكية برز تصريحان يعكسان بصورة واضحة حقيقة الأهداف والاهتمامات الأمريكية فى مصر: التصريح الأول جاء على لسان المتحدث باسم الخارجية الأمريكية ويعرب فيه عن أمل بلاده فى أن تحافظ أى حكومة مصرية قادمة على دور بناء فى عملية السلام فى الشرق الأوسط. والتصريح الثانى جاء على لسان مايك مولن رئيس هيئة الأركان الأمريكية وعبَّر فيه عن ثقته فى قدرة الجيش المصرى على توفير الأمن فى البلاد خاصة فى قناة السويس والتصريحان يكشفان بما لا يقبل الشك أن الأهم بالنسبة للأمريكان هو ضمان أمن إسرائيل وحرية الملاحة فى قناة السويس باعتبارها أهم ممر ملاحى فى العالم. والآن من حق كل مصرى أن يسأل نفسه: لماذا هذا الأسلوب الأمريكى الوقح فى التعامل مع مصر؟ لماذا التدخل فى شئوننا الداخلية؟ لماذا «الآن» و «فوراً»؟ لقد أكدت صحيفة «الديلى تليجراف» البريطانية وهى صحيفة مقربة من مصادر المعلومات فى الاستخبارات البريطانية أن الولاياتالمتحدة هى التى خططت لإحداث القلاقل وهى التى عملت على خروج المظاهرات من أجل إسقاط الرئيس حسنى مبارك عن سدة الحكم. وأضافت الصحيفة استناداً إلى مصادر فى واشنطن أكدت لها أن أمريكا خططت جيداً وبشكل سرى لكل ما حدث بهدف تقويض حكم حسنى مبارك وأن الخطة التى تم تنفيذها تم وضعها عام 2008 أثناء فترة حكم الرئيس جورج بوش الابن وأكدت الصحيفة أن أمريكا وراء كل ما حدث من تطورات أعقبت التظاهرات الشعبية البريئة والسلمية. وبما أننا فى زمن «ويكيليكس» الذى يكشف المستور فإن آخر هذا المستور وثيقة سرية تكشف الدور الأمريكى فيما حدث فى مصر مؤخراً والوثيقة تم إرسالها من السفارة الأمريكيةبالقاهرة إلى واشنطن عبر الكابل السرى وترجمتها منشورة بالكامل لمن يريد الاطلاع عليها فى العدد الصادر بتاريخ 6 فبراير 2011 من هذه المجلة. مواقف متحضرة وعلى العكس تماماً من الموقف الأمريكى المتخبط إزاء الثورة الشعبية فى مصر كان الموقفان الروسى والإيطالى على وجه الخصوص واضحين متحضرين. فقد انتقد وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف تصريحات الولاياتالمتحدة وبعض الدول الغربية بشأن الثورة الشعبية فى مصر واعتبر أن ما يحدث فى مصر هو شأن داخلى فى بلد ذى سيادة مشيراً إلى أن أى تدخل أجنبى فى شئون المصريين من شأنه أن يعمل على تأزيم الوضع بدلاً من حله، وعبر عن أمله فى أن يتوصل جميع الفرقاء السياسيين داخل مصر إلى حلول ومعالجات للمشاكل السياسية والاقتصادية التى تواجه هذا البلد الذى وصفه بأنه أكبر دولة فى الشرق الأوسط. وكان قد حذر سابقاً من فرض حلول خارجية للأزمة فى مصر مشيراً إلى أن فرض الحلول من الخارج أو توجيه الإنذارات يعد أمراً غير إيجابى فى رد واضح بالطبع على التصريحات الأمريكية ذات اللهجة الآمرة. نفس الموقف تقريباً اتخذته إيطاليا ممثلة فى رئيس وزرائها سيلفيو بيرلسكونى الذى وقف مع استقرار مصر والابتعاد عن سياسة الإملاءات واللهجات الآمرة. يقول المثل إن الصديق الحق هو الذى تجده إلى جانبك وقت الشدة فهل ندرك الآن الفارق بين الصديق الحق والصديق الذى يريد فرض سيطرته وإملاءاته علينا؟ ولن أتحدث هنا عن المواقف الانتهازية وعن محاولات البعض ركوب الموجة لكنى سوف أكتفى بموقف إيران ومندوبها السامى فى لبنان حسن نصر الله فقد خرج علينا المرشد العام لما يسمى الثورة الإيرانية على خامنئى بخطبة باللغة العربية أمام جمع من المصلين لا يفقهون منها كلمة واحدة تطاول فيها على مصر والمصريين وليذكرنا بخطبة الإمام الخومينى فى أعقاب اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات، ثم خرج علينا وكيلهما فى المنطقة حسن نصر الله ليكمل سلسلة بذاءات أسياده فى طهران معلناً فى كلمة بعنوان «نصرة انتفاضة شعب مصر» وضع كل إمكانيات حزب الله تحت تصرف مصر وشبابها واستعداده لتقديم دمه وروحه مثل أى شاب مصرى معتبراً أنه لا يتدخل فى شئون مصر الداخلية فى الوقت الذى يدعو فيه الشعب والجيش ورجال الدين للانقضاض على النظام! إن الثورة التى فجرها شباب مصر الأطهار الأنقياء لم تقف عند حد ميدان التحرير، وإنما تعدت ذلك إلى « تحرير « المنطقة والعالم. وظاهرة القوة الشعبية Peoples Power لم تلق مثل هذه الحماسة التى تشهدها الآن عواصم عدة فى العالم. وربما كانت الأحداث التى شهدتها مصر أكبر من باراك أوباما الذى صرح مؤخراً بأن مصر تغير من وجهها للأبد. ومن الممكن قول ذلك على دول كثيرة فى الشرق الأوسط وربما فى العالم كله فعندما تهب رياح الديمقراطية فإنها دائماً لا تضع فى حساباتها الحدود السياسية. وقد كان الرئيس الروسى ميدفيديف من بين أول من اعترفوا بذلك فى أعقاب اندلاع الثورة التونسية عندما وصفها بأنها «درس هام لكل الأنظمة» وعلى الزعماء ألا يجلسوا مرتاحين.. عليهم أن يندمجوا ويتطوروا مع المجتمع وإن لم يفعلوا ذلك وإن لم يستجيبوا لتطلعات شعوبهم فستكون النتائج أكثر مأساوية. وعلى فرانسيس فوكوياما أن يحدث «نهاية تاريخه» وعلى صمويل هنتنجتون أيضاً أن يعدل الآن من «صدام الحضارات» وعلى دافيد كاميرون ونيكولا ساركوزى وأنجيلا ميركل أن يراجعوا الآن مسألة فشل تعدد الثقافات والمواءمة بين الإسلام والديمقراطية الليبرالية.