بعد أن هدأت النفوس وسكن الغضب وتوقف الصخب والشغب وخفت الضجيج حول حادث التفجير الإرهابى الذى وقع عند كنيسة القديسين بالإسكندرية ليلة رأس السنة الميلادية الجديدة.. أحسب أنه من الضرورى أن نتوقف مليا لإعادة قراءة ما جرى بهدوء وحكمة فى إطار اتفاق وطنى عام على التوصيف الصحيح والدقيق للحادث وتداعياته، ومن ثم إسقاط أهدافه التآمرية، وفى نفس الوقت إجراء مراجعة للمعالجة الإعلامية والرسمية بل الدينية أيضاً لذلك العمل الإجرامى، إذ أن ثمة ملاحظات مهمة ضرورية يتعين إبداؤها بكل الحيدة والموضوعية. ولعله ليس تكرارا إعادة التأكيد وفقا لكل الشواهد على أن الحادث ليس عملا طائفياً استهدف كنيسة القديسين تحديدا والمسيحيين على وجه الخصوص، بقدر ما كان عملا إجراميا إرهابيا استهدف مصر كلها وأمنها واستقرارها وإثارة الفتنة وإحداث وقيعة بين مسلميها ومسيحييها، وحيث تم اختيار التوقيت بخبث شديد للإيحاء بأن الحادث طائفى وأن مرتكبيه مسلمون، وهو الأمر الذى ينفيه وقوع التفجير بين الكنيسة والمسجد المواجه لها فى نفس الشارع، وحيث لم يفرق بين المسلمين والمسيحيين رغم أن غالبية الضحايا من المسيحيين. ولذا فإن المصاب مصاب مصر كلها والمصريين جميعا وليس المسيحيين وحدهم، وكذلك فإن الحزن حزن مصر جميعها، والغضب غضب كل المصريين.. المسلمين قبل المسيحيين، والعزاء يتعين أن يكون لكل المصريين وليس المسيحيين وحدهم أو الكنيسة فقط. وفى ضوء هذا التوصيف الدقيق والصحيح للحادث، ومع الإقرار بمشروعية الغضب المسيحى الخاص باعتبار أن غالبية الضحايا من المسيحيين، فإنه كان مؤسفا ومؤلما أن هذا الغضب قد اتسم بكثير من الطائفية بأكثر مما اتسم بالوطنية، بقدر ما كان مؤسفا أيضا أن الهتافات الشبابية المسيحية قد اتسمت وعلى حد تعبير البابا شنودة ذاته «بتجاوز الأدب» فى نفس الوقت الذى تجاوز فيه هذا الغضب مشروعيته بالاعتداء على رجال الأمن دون مبرر حقيقى، ودون إدراك لأن ذلك المسلك خروج خطير على الشرعية.. تعاملت معه الحكومة وأجهزة الأمن بتسامح كبير وغير مسبوق. الأمر الآخر أنه فى ضوء الإجماع الوطنى العام على أن الحادث مؤامرة خارجية استهدفت مصر كلها، فإنه كان يتعين ألا يغيب عن فطنة العقلاء والفضلاء من النخب الوطنية السياسية والفكرية بل الدينية أيضاً.. الربط بين الحادث وأهدافه ودوافعه وبين مخططات و«سيناريوهات» خارجية صهيونية ضد المنطقة العربية كلها ومن بينها بالضرورة مصر.. تستهدف تقسيم وتفتيت دولها على أساس عرقى ودينى وجغرافى، ومن ثم فإن تدبير وتنفيذ ذلك الحادث وغيره من حوادث مستقبلية محتملة بل مرجحة، ليس بمعزل عما يجرى فى العراق والسودان ولبنان، مع ملاحظة أنه تزامن مع الاستفتاء الذى يجرى حالياً على انفصال جنوب السودان. *** لقد استوقفنى كثيرا رد الدكتور فتحى سرور رئيس مجلس الشعب على رئيس البرلمان الأوروبى، والذى أزال التباسا كبيرا بشأن الحادث، وهو مابدا فى تقديرى أقوى رد على الادعاءات الخارجية والداخلية، وأدق توصيف لحقيقة الحادث وأبلغ توضيح لدوافعه وأهدافه، وعلى النحو الذى يجعله بمثابة بيان رسمى صادر عن القاهرة وموجه إلى المجتمع الدولى كله، ومن ثم فقد كان ضروريا أن يلقى اهتماما أكبر من أجهزة الإعلام المصرى. المهم فى رد الدكتور سرور على رئيس البرلمان الأوروبى وبعد أن أوضح أن الحادث وقع فى شارع رئيسى مكتظ بالمواطنين المسلمين والمسيحيين ويقع فيه مسجد على بُعد أمتار من الكنيسة، ونجم عنه سقوط ضحايا من الجانبين.. المهم فى الرد هو تذكير الدكتور سرور لنظيره الأوروبى بأن المسيحيين لا يمثلون أقلية بل إنهم جزء أصيل من نسيج الشعب المصرى وأن أمنهم وحريتهم مكفولة بحكم القانون والدستور. أما الأهم فى رد الدكتور سرور فهو أنه وضع يده على أخطر أهداف ذلك الحادث الإرهابى باعتبار أن الهدف ليس فقط الوقيعة بين المسلمين والمسيحيين، بل استدراج العالم الإسلامى كله نحو مواجهة دينية وصراع حضارى مع الغرب. *** ما ذكره الدكتور فتحى سرور عن الاستدراج نحو المواجهة الدينية هو بالضبط ما وقع فيه الإعلام المصرى الرسمى والخاص.. المقروء والمرئى على حد سواء، بل لا أبالغ إذا قلت إن ما ينطبق على الإعلام ينطبق بنفس القدر على أجهزة الدولة الرسمية والقيادات الدينية من الجانبين، وهو ما سيتضح من بعض الملاحظات التالية: أولى هذه الملاحظات هى حالة الارتباك التى تعاملت بها أجهزة الدولة ومعها الإعلام مع الحادث، وحيث بدت وكأن على رأسها «بطحة» بل وكأن «البطحة» على رءوس المسلمين، وحيث تضمن رد فعل الدولة وتغطية الإعلام الإلحاح المبالغ فيه دون داع حقيقى على نفى الطائفية عن تلك الجريمة الإرهابية، إذ أن الحادث لم تسبقه أية مشاحنات بين المسلمين والمسيحيين فى منطقة كنيسة القديسين. الملاحظة الثانية هى أن أجهزة الإعلام وكذلك الدولة أغفلتا التركيز على أن عددا من المسلمين كانوا أيضا من بين الضحايا وكذلك تعرض المسجد المواجه للكنيسة لتلفيات وإصابات، وهو خطأ كبير أسهم فى الإيحاء بأن التفجير استهدف الكنيسة فقط والمسيحيين وحدهم. فى هذا السياق من الارتباك، فإن التعامل الأمنى شديد الليونة مع أعمال الشغب والهتافات الطائفية من جانب المسيحيين وخاصة الشباب.. أعطى انطباعا خاطئا بأنه محاولة لاسترضاء المسيحيين «المضطهدين».. هذه الليونة الأمنية فى التعامل مع أعمال شغب وخروج على الشرعية عكست حالة من الحساسية المفرطة والتى بدت فى غير موضعها. هذه الحساسية المفرطة تبدّت أيضاً فى تعليق فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر على الهتافات الطائفية لشباب المسيحيين أثناء زيارته وفضيلة المفتى ووزير الأوقاف لقداسة البابا شنودة وحيث قال إنه يقدر غضبهم وأنهم أبناؤه، ورغم أنه كان يتعين على قداسة البابا إصدار بيان للاعتذار عن هذه الهتافات إلا أن ذلك لم يحدث! *** ثمة ملاحظة أخرى وهى أنه فى ذروة مظاهرات الغضب والهتافات الطائفية فإن أجهزة الأمن قامت بالإفراج عن آخر دفعة من الشباب المسيحيين المحبوسين على ذمة قضية أحداث العمرانية والذين كانوا قد اقتحموا محافظة الجيزة وأطلقوا الرصاص على نائب مدير الأمن، وحيث بدا هذا الإفراج الشرطى غير القضائى والذى تواكب مع تداعيات حادث الإسكندرية، تراجعا غير قانونى عن معاقبة خارجين على الشرعية أيا كان انتماؤهم الدينى. وفى نفس الوقت وكأنه ترضية فى غير موضعها للمسيحيين عن ذلك الحادث!، وهو تصرف من شأنه تكريس الحساسية المفرطة من جانب الدولة وعلى النحو الذى يمثل خلطاً كبيراً وخطيراً للأوراق. *** وتبقى ملاحظة أخيرة تتعلق بالمعالجة الإعلامية والحكومية والدينية للحادث، وحيث استدرج الجميع إلى خطأ كبير بالربط المخل بينه وبين الحديث عن شكاوى ومطالب للمسيحيين تتعلق بإجراءات بيروقراطية لا علاقة لها بالدين فى بناء الكنائس وكذلك بشأن تولى المناصب القيادية والتى لا علاقة لها بالدين أيضاً، بل بمعايير الكفاءة فى المقام الأول، بل كان من الخطأ أيضاً الربط بين الحادث وبين ما يسمى بالاحتقان الطائفى الذى لا وجود له حقيقيا فى مصر باستثناء حالات نادرة لظروف بيئية فى الصعيد وعشوائيات بعض المدن. أما الربط بين الحادث وبين الحديث عن إعادة النظر فى المناهج الدراسية وتغيير لغة الخطاب الدينى فقد بدا صيدا فى الماء العكر وعلى خلفية الحادث الإرهابى. *** إن مصر وطن واحد.. لشعب واحد.. لا فرق بين مسلم ومسيحى، فالمصريون عبر تاريخهم الممتد لآلاف السنين وحضاراتهم المتعاقبة لا يعرفون الطائفية.