إحدى الروائع التى عرضها مهرجان الفيلم الأوروبى فى دورته الثالثة العمل الإيطالى المذهل «vincere» أو «انتصار» للمخرج الإيطالى الكبير «ماركو بيللوكيو» الذى اختار أن يقدم هجاء عنيفاً للفاشية من خلال زواية جديدة تماماً وإنسانية أيضاً. لجأ المخرج الكبير إلى تقديم الحكاية الحقيقية لزوجة منسية للزعيم الفاشى «موسولينى» اسمها «أيدا دالسر» أحبته بجنون، وأنجبت منه طفلاً اسمه «بنيتو ألبينو موسولينى»، ولكنها تخلى عنها عندما عاد من الحرب العالمية الأولى، وعندما بدأ رحلة الصعود الطويلة للسلطة، والتى انتهت به وببلده إلى الهاوية، لم تسكت المرأة على التجاهل، وكتبت خطابات تؤكد فيها أنها زوجة الدوتشى المنسية، فانتقم منها بإيداعها مستشفى للأمراض العقلية لمدة 11 عاماً لتحدث عام 1937، أما ابنها الذى كان يعلن أيضاً أنه ابن الدوتشى المجهول، فقد انتزع من أمه، وأودع مدرسة خاصة، وعمل بحّاراً لسنوات، ثم أودع مستشفى للأمراض العقلية ليموت وعمره 26 عاماً فقط، وقد ظلت هذه المأساة مجهولة تماماً حتى كشف عنها صحفى إيطالى اسمه «ماركوزينى». ولكن الفن ليس هو الواقع، وإنما رؤية لهذا الواقع من خلال ذات الفنان، وهكذا قرر «بيللوكيو» أن ينطلق من تفاصيل الحكاية الإنسانية إلى آفاق أوسع بكثير، فاختار أن يكون البناء حافلاً بالدلالات التاريخية والسياسية والدينية أيضاً، بدت «ايدا» فى حبها الجنونى الأعمى ل «موسولينى» عندما التقته عام 1907، ثم تكرر القاء عام 1914 كما لو كانت إيطاليا الباحثة عن معبود أو منقذ، وبدا «موسولينى» الذى نراه فى المشهد الأول وهو يجد فى حق الله، وكما لو كان يستعد لتدشين نفسه كإله مزيف حاملاً شعارات مزيفة، ومع صعود «الدوتشى» الذى أصبح فى عام 1922 أصغر رئيس للوزراء فى تاريخ إيطاليا «39 عاماً»، يبدأ سقوط «إيدا» الجسدى والروحى والإنسانى، وبهذه المقابلة يقول الفيلم بوضوح أن انتصار الفاشية يكون على جثة الإنسان. أودعت «إيدا» إحدى المهمات النفسية، وهناك التقت بالدكتور «كابيلليتى» الذى كان يعرف أنها ليست مجنونة، ولكنه وفى إشارة سياسية واضحة لصعود الفاشية ينصحها بأن تمثل على الآخرين، ولا تقول لهم الحقيقة، لأن هذا هو الزمن الذى يجب أن يستعد الجميع للتمثيل فيه. بهذا المعنى تحولت مأساة امرأة آمنت برجل فخذلها وتخلى عنها إلى مأساة شعب صدق إلهاً مدعياً و15 من رفاقه وعشيقته الأخيرة «كلارا بيتاتشى» فى أبريل عام 1945، وإذا كان الفيلم يبدأ بتدشين محاولات «موسولينى» لكى يكون إلهاً لشعبه، فإن الفيلم ينتهى بتحطيم تمثال «موسولينى»، وإذا كانت «ندالة» «موسولينى» مع زوجته التى لم تستطع إظهار وثيقة زواجها يمكن أن تتكرر مع حالات مختلفة فى كل زمان ومكان، إلاّ أن الندالة والجبن والخسَّة أصبحت مع صعود الفاشية فى إيطاليا دستوراً للحياة، والفيلم يوضح بصورة لا تحتمل اللبس كيف كان «موسولينى» أقرب إلى «الأراجوز» الذى فشل أن يكون موسيقياً أو كاتباً فأراد أن يكون زعيماً، ويوضح أيضاً كيف انقلب على أفكاره من أجل مصالحه، فبعد أن كان ضد الملكية والملك «فيكتور عمانويل» أصبح متعاوناً معه فى الحكم، وبعد أن كان ضد رجال الدين، أصبح الدوتشى الزعيم الذى اعترف بدولة الفاتيكان فى قلب روما، لا شىء إلا المصلحة وليسقط الجميع. على مستوى الصورة وشريط الصورة نحن أمام جدارية ضخمة استخدم فيها «بيللوكيو» أفلاماً روائية صامتة وجرائد سينمائية، وأبدع مدير التصوير «دانييل كيرى» فى رسم ملامح صورة تغلب عليها مساحات واسعة من اللون الأسود، ثم أبدع أبطال الفيلم خاصة «جيوفان ميزجيورنو» فى دور «أيدا» فى التعبير عن مأساة شعب من خلال مأساة امرأة.