سواء تم استفتاء تقرير المصير فى جنوب السودان المقرر إجراؤه فى التاسع من شهر يناير المقبل بموافقة شريكى الحكم.. حزب المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية فى موعده المحدد، أو تأجل بسبب الخلاف حول القضايا العالقة التى لم يتوصل إلى اتفاق بشأنها حتى الآن، فإن الأمر المؤكد أن الانفصال واقع فى كل الأحوال.. عاجلا أو أجلا، إذ اتضح أن قيادة الحركة متمسكة بخيار الانفصال وضد خيار الوحدة الذى تقول إنه لم يعد جاذبا. غير أن إقدام الحركة الشعبية بقيادة «سيلفاكير» على إجراء الاستفتاء من جانب واحد ودون موافقة حكومة الخرطوم، وقبل حل القضايا العالقة وفى مقدمتها ترسيم الحدود فى منطقة «إبيى» البترولية، فسوف يعد انتهاكا لاتفاق «نيفاشا» للسلام الذى جرى توقيعه فى كينيا عام 2005، وفى نفس الوقت فسوف يكون من شأنه تجدد الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، وحسبما حذرت الحكومة السودانية على لسان مندوبها فى الأممالمتحدة أمام مجلس الأمن قبل أيام والذى اعتبر أن إجراء الاستفتاء قبل تسوية الخلاف حول منطقة «إبيى» بمثابة الدعوة لإعلان الحرب. وإذا كان اتفاق «نيفاشا» قد حدد فترة ست سنوات لإتاحة الفرصة لشريكى الحكم للعمل معا على حل الخلافات بين الشمال والجنوب حول كافة القضايا وفى مقدمتها تقاسم الثروة والسلطة فى سودان موحد وبما يجعل خيار الوحدة جاذبا، وبحيث يقرر بعدها الجنوبيون عبر الاستفتاء ما إذا كانوا مع خيار الوحدة أم الانفصال؛إلا أنه ومع اقتراب نهاية مهلة السنوات الست التى حددها الاتفاق وحلول موعد الاستفتاء، فقد كشفت الأزمة التى تفجرت هذه الأيام أن كلا الجانبين لم يعملا من أجل جعل خيار الوحدة جاذبا وفى نفس الوقت لم يعملا من أجل تهيئة الأجواء والانتهاء من ترتيبات وتدابير إجراء الاستفتاء فى موعده المحدد.. بل لقد أضافت الحركة الشعبية مزيدا من التعقيد والتصعيد بمطالبتها للأمم المتحدة بإقامة منطقة عازلة وإعادة نشر قواتها على الحدود بين الشمال والجنوب، وهو المطلب الذى ترفضه الخرطوم باعتباره تدخلا خارجيا فى شئون السودان وعدوانا على سيادته. وإذ لا تزال القضايا العالقة قائمة دون توصل إلى حلول بشأنها ومن بينها قضايا الحريات الأربع والخاصة بالهوية وحرية تنّقل وتملّك وعمل وإقامة الشماليين فى الجنوب والجنوبيين فى الشمال، والتى أضاف إليها حزب المؤتمر الوطنى الحاكم فى الخرطوم مؤخرا قضية أخرى وهى إسقاط الجنسية السودانية فى حالة الانفصال عن الجنوبيين المقيمين فى الشمال، وكلها قضايا متشابكة وبالغة التعقيد وسوف تكون مثار أزمات ومشكلات للسودانيين من الجانبين لا نهاية لها. فإن أهم وأخطر القضايا العالقة والتى تعرقل إجراء الاستفتاء فى موعده، هى استمرار الخلاف حول ترسيم الحدود فى «إبيى» والتى يتهرب الجنوبيون من تسويتها عدة مرات.. آخرها جولة المفاوضات التى كان مقررا عقدها الأربعاء الماضى فى العاصمة الأثيوبية «أديس أبابا» وتأجلت إلى موعد لاحق، وهو الأمر الذى يزيد من أجواء الاحتقان ويدفع حكومة السودان فى الخرطوم إلى الإصرار على تأجيل الاستفتاء مالم تتم تسوية هذه القضية الحدودية. لذا فإنه بدون تسوية كل القضايا العالقة وخاصة قضية الحدود، فإن الأزمة السودانية تتجه نحو تصعيد خطير يهدد بالفعل بنشوب الحرب الأهلية حتى قبل موعد الاستفتاء أو بعده، وسواء وقع الانفصال أم تأجل. إن السودان الآن بين رهانين.. الأول رهان حكومة الخرطوم على تأجيل الاستفتاء ومن ثم تأجيل الانفصال الذى ظل ومازال يمثل هاجسا مؤرقا تسعى لإبعاده أملا فى التوصل إلى خيار «الفيدرالية» أو «الكونفدرالية»، بينما تراهن حكومة الجنوب على إجراء الاستفتاء فى موعده وقبل ترسيم الحدود، باعتبار أن الانفصال يتيح لها التفاوض بشأنها بنّدية أكبر إذ أنها فى هذه الحالة سوف تكون بين دولتين، وهو ما يجعلها أيضا تلجأ إلى التحكيم الدولى ومن ثم إطالة أمد الحل والاستحواذ على عائدات البترول وحرمان الخرطوم منها. ثم إن الحركة الشعبية ممثلة فى حكومة الجنوب تراهن أيضا على أن الضغوط الدولية الغربية، وخاصة الأمريكية سوف تجبر الخرطوم على إجراء الاستفتاء فى موعده بعد تحذيرات واشنطن وتهديدها بتشديد العقوبات المفروضة على الحكومة السودانية فى حالة تأجيل موعد الاستفتاء، وهى الضغوط والتهديدات التى توفّر لحكومة الجنوب غطاءً دوليا وأمريكيا يشّجعها على إجرائه من جانب واحد. وفى نفس الوقت ومع تحركات واتصالات الاتحاد الأفريقى التى تتسارع فى الوقت الراهن لاحتواء الأزمة وتجنب التصعيد فقد بدا أن هناك توافقا إقليميا أفريقيا على إجراء الاستفتاء فى موعده ودون تأجيل. وفى هذا السياق بدا الدور المصرى حاضرا بقوة فى الوقت الحرج الذى يسبق موعد الاستفتاء، وإن كان حضوره قد تأخر كثيرا لأسباب كثيرة من بينها ما يتعلق بحساسيات زائدة من جانب الخرطوم رغم أن استقرار الأوضاع فى السودان شماله وجنوبه يدخل فى صميم الأمن القومى لمصر. لقد استهدف الحضور المصرى فى الأزمة السودانية الراهنة ومن خلال التحركات والاتصالات السياسية والدبلوماسية المباشرة مع شريكى الحكم.. تهيئة الأجواء المناسبة لإجراء الاستفتاء تنفيذا لاتفاق «نيفاشا» وفى نفس الوقت استبعاد لغة الحرب من الخطاب السياسى للجانبين.. تجنبا لمزيد من التدخلات الخارجية ولمزيد من تدويل وتداول الأزمة السودانية خارج السودان وخارج القارة الأفريقية. وتبقى الحقيقة وهى أن حزب المؤتمر الوطنى ممثلا فى النظام السودانى أهدر فرصة السنوات الست لجعل خيار الوحدة جاذبا.. متوهما أن انفصال الجنوب هاجس لن يتحقق إلى أن انتهت المهلة ولم يعد أمامه سوى التضحية بالجنوب فداء للبقاء فى السلطة والتى بدت هى الخيار الجاذب للنظام، بقدر ما بدا خيار الانفصال جاذبا لقيادات الجنوب وحكومته. الأمر الآخر فى سياق تلك الحقيقة هو أن الحركة الشعبية وحكومة الجنوب لم تكن تنوى اختيار الوحدة.. بل إنها كانت وطوال السنوات الست ماضية قدما فى ترتيبات التوجه نحو الانفصال فى نهاية المطاف. أما المفاجأة المثيرة والتى تؤكدها التقارير السياسية المحايدة، فهى أن الانفصال ليس خيار غالبية السودانيين الجنوبيين وأيضا ليس خيار غالبية القوى السياسية الجنوبية، ولكنه فقط خيار الحركة الشعبية بقيادة «سيلفاكير» والذى حرّض الجنوبيين صراحة قبل أيام على التصويت لصالح خيار الانفصال بزعم أن الوحدة واستمرار الجنوب ضمن السودان الموحد يجعلهم مواطنين من الدرجة الثانية. ويبقى أخيرا أن كل الاحتمالات فى السودان قائمة، وأن كل السيناريوهات ممكنة، إذ أن إجراء الاستفتاء من جانب واحد سوف يشعل الحرب، كما أن للانفصال إذا ما جرى الاستفتاء بموافقة الجانبين تداعيات خطيرة.. أولها نشوب الحرب بين السودان ودولة الجنوبالجديدة بل إنه يمكن التنبؤ باحتراب بين الجنوبيين أنفسهم بعد الانفصال.. بين حكومة سيلفاكير وبقية القبائل والأحزاب الجنوبية الأخرى. كان الأمر المؤكد وفى كل الأحوال.. هو أن السودان كل السودان فوق بركان.