سمعت شابا يقول لزميله: حتى لو حرقوا القرآن.. لن يحرقوا إلا أوراقا أما القرآن نفسه فلن يمسه سوء لأن الله وعد بحفظه إلى يوم الدين.. ولم تتح لى الظروف الاستماع إلى بقية حديث الشابين.. لكن ما سمعته أعجبنى وأكد لى أن العقل والحكمة والفهم الصحيح للدين قادرة على إطفاء الحرائق التى يشعلها أناس مثل القس تيرى جونز الذى أراد أن يحرق المصحف الشريف على مرأى ومسمع من العالم كله!.. لا يقلل ذلك ولا يهون من الجريمة التى لا تمثل إهانة للمسلمين وحدهم وإنما لكل المدافعين عن الحريات الدينية وقيم التسامح فى العالم كله.. لكن ماذا نفعل مع رجل أخرق يلبس ثوب رجال الدين وهو أبعد ما يكون عن مفهوم أى دين؟!.. ماذا نفعل مع رجل أحمق مجنون باعتراف ابنته؟!.. ومع ذلك فإننا نخطئ خطأ شنيعا لو تصورنا أن القضية هى قضية هذا القس المجنون.. ذلك أنه تراجع عن إحراق المصحف لكن الخطر لم يتراجع.. وأغلب الظن أن آخرين سيحاولون ارتكاب مثل هذه الحماقات فى الفترة القادمة لأن الذين يديرون حرب الكراهية فى أمريكا ضد الإسلام والمسلمين.. يستطيعون تحريك المئات مثل القس جونز إن لم يكونوا أكثر منه حماقة وجنوناً!.. وهؤلاء يجيدون فن صناعة الكراهية!.. صحيح أن القس تيرى جونز هو الذى جعل العالم يقف على أطراف أصابعه يوم أعلن عن خططه لحرق نُسخ من المصحف الشريف فى ذكرى هجمات 11 سبتمبر.. اعتراضا على بناء مركز ثقافى إسلامى ومسجد بمدينة نيويورك بالقرب من موقع برجى التجارة العالميين اللذين دمرا عن آخرهما فى الهجمات.. لكنه فى النهاية ليس هو الفاعل وإنما المفعول به!.. القس تيرى جونز قام هو وزوجته برئاسة كنيسة «مركز حمائم التواصل العالمى» فى مدينة جينيفيل بولاية فلوريدا الأمريكية فى عام 1996.. لكنه قبل ذلك كان يرأس كنيسة مماثلة فى مدينة كولن بألمانيا إلا أن المترددين على الكنيسة والمنتمين لها اتخذوا قرارا بإبعاده بسبب أسلوبه فى القيادة.. القس المطرود بسبب سلوكه فى الحقيقة حُكم عليه قبل طرده بغرامة مالية كبيرة بسبب استخدامه لقب دكتور بدون وجه حق.. ثم إنه كان معروفاً عنه أنه صاحب ذمة مالية «واسعة»!.. وعلى الرغم من أنه ينفى ذلك ويؤكد أنه شخص أمين فإن ابنته إيما التى اتهمته بالجنون والحماقة.. اتهمته أيضاً بعدم الأمانة فى تعاملاته المالية!.. ابنة القس إيما فى الحقيقة تؤكد أن والدها فقد عقله وأنه بحاجة إلى المساعدة.. ذلك أنه يفعل أشياء لا صلة لها بالإنجيل وأنها على يقين من أنه على ضلال دينى وإن كانت تتمنى أن يعود إلى صوابه.. فى كل الأحوال شخصية القس جونز وأفعاله لا تؤهله لأن يلعب دور الرجل الخطير الذى يمكن أن يشعل العالم ويغرقه فى الفتن.. فهو ليس أكثر من رجل أحمق ومجنون باعتراف ابنته والمترددين على كنيسته القديمة.. وحتى المترددين على كنيسته الحالية.. عددهم لا يزيد على خمسين شخصا.. وهو ما يعكس قلة جاذبيته وقدرته على التأثير فى الآخرين.. القس جونز فى كل الأحوال مفعول به يستخدمه هؤلاء الذين يقفون وراء حملة كراهية الإسلام فى الولاياتالمتحدة.. هو وأمثاله من المجانين والحمقى.. ليس فقط لأسباب دينية وإنما لأسباب سياسية!.. *** ليس سرا أن المحافظين الجدد والذين ينتمون لليمين المتطرف هم الذين يقودون حملة كراهية الإسلام والمسلمين فى أمريكا.. الحملة تصاعدت بشكل خطير وأصبحت تهدد المسلمين الأمريكيين الذين يصل عددهم إلى نحو 7 ملايين مواطن.. هؤلاء أصبحوا يتعرضون لتمييز دينى واضح ويتلقون تهديدات خطيرة وتوجه لهم اتهامات بشعة.. أقلها أنهم ليسوا أمريكيين وعليهم الرحيل من بلادهم.. واللافت للنظر أن المسلمين فى أمريكا لم يتعرضوا لمثل هذا الهجوم الشرس من قبل.. حتى فى أعقاب هجمات 11 سبتمبر.. وليس سرا أن المحافظين الجدد والمنتمين لليمين المتطرف هم أصحاب نظرية اختيار عدو بديل للاتحاد السوفيتى فى أعقاب انهياره.. وقد اختاروا الإسلام!.. وهم الذين خططوا ودبروا لضرب العراق وأفغانستان.. وهم الذين تفننوا فى صناعة الكراهية للإسلام والمسلمين!.. وربما لهذا السبب نجد أن الذين يقودون حملة الكراهية للإسلام والمسلمين هذه الأيام ينتمون إما لليمين المتطرف أو المحافظين الجدد.. ومن هؤلاء «نويت جنجريتش» رئيس مجلس النواب السابق و«سارة بالين» حاكم ولاية ألاسكا السابق.. و«جون بولتون» سفير أمريكا السابق فى الأممالمتحدة.. وكلهم معروف عنهم عنصريتهم وكراهيتهم للإسلام والمسلمين.. وليست مصادفة أنهم جميعاً ينتمون للحزب الجمهورى الذى حكم أمريكا ثمانى سنوات قبل أن يأتى أوباما.. والذى أوصل العالم كله لكراهية أمريكا!.. هؤلاء الذين يجيدون فن صناعة الكراهية.. سواء كراهية الأمريكيين للإسلام والمسلمين أو كراهية العالم لأمريكا.. لا يعجبهم سياسة أوباما الجديدة والتى أراد من خلالها أن يصالح العالم الإسلامى.. وللأسف فإنهم قادرون على التأثير بشدة فى المواطن الأمريكى البسيط الجاهل بطبيعته لحقائق الأمور المتعلقة بالعالم.. فالمعروف عن الغالبية العظمى من الأمريكيين أنهم مهتمون بالأمور الداخلية وخاصة ما يتعلق منها بالاقتصاد ولا يعرفون شيئا يذكر عن العالم ومشاكله وصراعاته!.. وهؤلاء يخططون لاستعادة دورهم.. وفى إطار هذا التخطيط يحاولون الفوز بانتخابات الكونجرس القادمة حتى يكونوا أغلبية وحتى يكونوا قادرين على إزاحة أوباما (الديمقراطى) من البيت الأبيض!.. ولذلك لم يكن غريبا أن يحظى الرئيس أوباما بجزء من حملتهم حيث يرددون أنه مسلم يخفى إسلامه!.. هؤلاء هم الخطر الحقيقى على أمريكا وعلى العالم!.. *** حذرت جهات كثيرة من استمرار هذه الحملة العنيفة ضد الإسلام والمسلمين والتى تستخدم شخصيات مثل القس جونز لتحقيق أهدافها.. الشرطة الدولية (الإنتربول) أصدرت بيانا أكدت فيه أن أى إجراء مثل الإجراء الذى كان القس جونز يعتزم القيام به سيؤدى إلى هجمات عنيفة محتملة فى مختلف أنحاء العالم.. الرئيس الأمريكى وجّه تحذيرا قوياً للمواطنين الأمريكيين وصف فيه خطة تصعيد الكراهية ضد الإسلام والمسلمين بأنها مدمرة وخطيرة وتعارض القيم الأمريكية وتشجع فى نفس الوقت على تجنيد عناصر جديدة لتنظيم القاعدة.. وأكثر من ذلك.. قال الرئيس الأمريكى أن مثل هذه الأفعال تعرض رجالنا ونساءنا فى الجيش فى العراق وأفغانستان لخطر كبير.. كما تعرض المواطنين الأمريكيين داخل المدن الأمريكية لخطر أكبر!.. بعض المواطنين الأمريكيين يشعرون أيضاً بهذا الخطر ومنهم الكاتبة الأمريكية كاترين باركر التى وجهت خطابا للعالم الإسلامى نشرته صحيفة واشنطن بوست تقول فيه: أعزائى المسلمين أكتب إليكم اليوم بصفتى مواطنة أمريكية محرجة جدا بسبب الأحداث الجارية فى البلاد، أنا لا أمثل أى شخص فأنا أتحدث عن نفسى ومع ذلك أعتقد أن كثيرين يشعرون بما أشعر به.. أرجو تجاهل القس جونز فيجوز له أنه يعيش فى أمريكا أو أنه للأسف يقود كنيسة ويمكن أنه يعرف خمسين شخصا أو أكثر من الذين اهتموا لكلامه حول حرق المصحف.. لكن تهديده بالتأكيد كان محاولة يائسة للفت الانتباه له.. ليس أكثر!.. ثم القسيسة الأمريكية «ديبورا ليندس» التى راحت تتلو القرآن فى كنيستها اعتراضا على حرقه كما أوردت فى عظتها بعضا من الآيات القرآنية التى تدعو إلى السلام وحب الله والنهى عن قتل النفس البشرية.. ويقودنا ذلك كله إلى أهمية ضبط رد الفعل تجاه مثل هذه الأفعال التى يقوم بها أناس أغبياء وحمقى لصالح اليمين المتطرف والمحافظين الجدد!.. *** يقتضى الإنصاف الاعتراف بأننا جزء من أسباب المشكلة.. فالذين يقودون حركات التطرف فى العالم الإسلامى أحد أسباب المشلكة.. وهؤلاء يزعمون أنهم مسلمون.. مع أنهم أبعد الناس عن الإسلام.. يقتضى الإنصاف أيضاً الاعتراف بأننا مقصرون فى حوارنا مع الغرب.. لا نزال نتحدث لأنفسنا.. لا نزال نتكلم مع الآخر بلغة لا يفهمها.. وبطبيعته فإن الأزهر هو المؤهل لهذا الدور.. هو الذى يستطيع أن يدير حوارا يوضح للغرب حقيقة الإسلام.. ويؤكد له أن الفارق بين الإسلام والإرهاب.. هو الفارق بين السماء والأرض!.. قرأت مؤخراً خبرا يقول إنه تم وضع اللمسات النهائية لإنشاء مركز الحوار بالأزهر ليتولى القيام بمهام وضع آليات ونشاط الحوار بين الأزهر ورجال الثقافات الأخرى.. وليكون البديل النشط والموسع للجنة حوار الأديان بالأزهر. أتمنى أن يكون الخبر صحيحا!.. *** الذين يتفننون فى صناعة الكراهية للإسلام والمسلمين.. لن يكون لهم دور إذا فقدوا تأثيرهم على المواطن الأمريكى البسيط.. وليس مطلوبا أن نتحاور مع هؤلاء ولكن مطلوب أن نصل إلى المواطن الأمريكى البسيط لكى يعرف حقيقة الإسلام ولكى يفهم أنه الدين الذى يعتبر قتل واحد من الناس بغير حق.. قتلاً لكل الناس. هذه رسالتنا يرحمكم الله!..