في أوج هجيرها القائظ نلت قسطًا من ظلال حنونة، وفي زمهريرها القارس نلت بعضًا من أحضان دافئة، ومن منحني هذه وتلك شخوص مروا بحياتى كنسمة صيف، مروا مرورًا كريمًا، أعانوني على اجتياز لحظات عصيبة وأزمات طاحنة كادت تعصف بحياتى ثم مضوا، مضوا في هدوء تاركين أثرًا جميلًا، وكأنه كان لكل منهم دورًا مرسومًا مسبقًا أداه بكل أمانه ومضى إلى حال سبيله وكثيرًا منهم لم أعد أعرف عنه شيئًا . والقصة بدأت حين كنت في السادسة عشرة أي مر عليها خمسون عامًا أو يزيد ، قلبي الغض اقتحمته باكورة قصص المراهقة الحتمية، ويومها انبثقت التفاصيل التي كنت أعتقد أنها محيت مع الزمن، كنا قد تزاملنا صغارًا في المدرسة الابتدائية هى تجلس أمامى حيث يجلس البنات عادة في الصفوف الأولى، حافظت على موقعي المفضل خلفها كلما انتقلنا الى الصف الأعلى وأظنها كانت لا ترغب في أي تغيير، كنا نتبادل بعض الأدوات وبعض النظرات التى لم أكن أظن أن لها معنى في حينه، ولم أك أدري أنها تخزن على الذاكرة لتسجل بالحفر العميق مشهد ثلاثى الأبعاد على جدار الجمجمة . افترقنا في المدرسة الإعدادية، لكن كان يجمعنا قطار الصباح الباكر نتصنع صدفة التجاور حينًا على مقعد وأحيانًا واقفين، وفي لحظات اقترابنا في الزحام الشديد كنت ألحظ التغير اليومى المتسارع في تفاصيل جسدها بينما كنت أنا أستجدي أن تنمو بعض شعيرات هزيلة برزت خلسة أسفل أنفي. انتقلنا إلى المدرسة الثانوية وبدأت المشاعر تتبلور شيئًا فشيئًا ، وبات جليًّا أنني أصبحت متيمًا بوجهها وعينيها وقوامها وصوتها وابتسامتها وتمحور فكرى واهتمامى حول هذه الحالة المدهشة التى أصبحت عليها، حالة من السياحة في عوالم من الرومانسية أنستني كل ما حولى عدا أن أهتم بإفراط بمظهري وأناقتي، ورغم مرور هذه العقود الخمسة لا زالت التفاصيل تقف مستوية كلما استدعيت منها مشهدًا، فيتجسد كله رباعى الأبعاد ما كنت أرى وما كنت أسمع وما كنت أشم وما كنت أتذوق . وفي غمرة هذا الفرح الطاغى وبينما أنا غارق في نشوة الولوج إلى مرحلة عنفوان الفتوة، حدث ما لم يكن يخطر لى على بال أيقظونى في الفجر لأحضر طبيبًا لأن أبى مريض وكنا في حوالى الخامسة صباحًا ولم تحن السابعة إلا وقد رحل أبي . أذكر أن هول الصدمة أفقدني اتزاني وسقطت على الأرض، حملني بعضهم لكني لم أغب عن الوعي لكنني أحسست بشعور السقوط من ارتفاع شاهق وارتطمت بالأرض، تبدلت حالة الرومانسية المفرحة إلى شعور الحزن الطاغى، من شعور أبواب الأمل المفتوحة عن آخرها إلى شعور المستقبل الغائم المجهول، من شعور الفتوة والشباب الى شعور المرارة واليأس، فقد رحل أبى في ريعان شبابه وبعد أن كنت الوحيد المدلل، أصبحت وحيدًا أعزل في مواجهة مجهول غائم وانقلبت كل الأمور راسًا على عقب. بالطبع علمت هى بما جرى وفي أول لقاء فوجئت بها ترتدى الأسود وغمرتني بنظرة مواساة دامعة عميقة أحسست لحظتها أنى لست وحدي وسرى في بدنى شعور بالمقاومة، ونهضت أتلفت حولى للبحث عن مكان لى في الحياه وفي غمرة الصراع من أجل البقاء، ضاعت أشياء كثيرة كانت هى أولها لكن ذكراها بقيت رصيد مدفون من أيام الفرح، أيام السباحة في بحر الأحلام الوردية التى أستعيدها بين الفينة والفينة لتطفئ لهيب الواقع، هذه لمحة من ظل سحابة حنون عبرت وتمهلت فوق رأسى رفقًا بي في يوم هجير قائظ .