ا لا تعود معرفة القارئ العربي بأعمال السوسيولوجي الفرنسي مارسيل موس إلى أمد بعيد، فقد بقيت أعماله بين عدد من الأنثروبولوجيين العرب، وربما تعدُّ دراسة الباحث والإناسي الراحل حسن قبيسي من بين أولى المحاولات الجادة، التي حاولت الاستفادة من بعض دراسات موس عن الجسد والموت، وتطبيقها لاحقا على التراث الإسلامي، كما بدا في دراسته «كيف نقرأ مقالا لمارسيل موس» المنشورة سنة 1986 في مجلة «الفكر العربي» (نُشِرت لاحقا في كتابه «المتن والهامش»).. ولاحقا يمكن القول إن الاهتمام برؤى موس تراجع إلى بدايات العقد الحالي، عندما أنجز الأنثروبولوجي التونسي المولودي الأحمر ترجمة الدراسة الأشهر لموس «بحث في الهبة: شكل التبادل وعلته في المجتمعات القديمة» عن المنظمة العربية للترجمة 2011|، ورغم أن الأنثروبولوجي التونسي محمد الحاج سالم يذكّرنا في دراسته «مارسيل موس عربيا: الحاضر بالغياب» بأن هناك من سبق قبيسي والأحمري، ففي عام 1974 ترجم الباحث المصري محمد طلعت عيسى نصا لموس حول الأنثروبولوجيا والهبة، مع ذلك فإنه يبين من خلال دراسة بيوغرافية لما صدر لموس في عالمنا العربي، أن النسيان والإهمال كانا نصيب أعمال هذا السوسيولوجي الفرنسي، إلى أن صدرت ترجمة المولودي الأحمر السابقة. وهنا لا بد من أن نشير إلى أنه ما تزال مسألة النسيان سمة أعمال الأنثروبولوجيين بشكل عام في ساحتنا العربية، وربما ينطبق الأمر ذاته على أطروحة الحاج سالم، التي اعتمد فيها بشكل كبير على أطروحات موس الأنثروبولوجية التي استخلصها من دراسته للمجتمعات البدائية، وحاول تطبيقه في دراسته للمجتمع الجاهلي انطلاقا من ملاحظات الأنثروبولوجي البريطاني إيفانز بريتشاد الذي أشار إلى إمكانية تطبيق نتائج البحث الأنثروبولوجي حول المجتمعات البدائية على المجتمعات القديمة – وستكون لنا عودة لأطروحة الحاج سالم وللمنهج البريتشاردي الذي حكمه لاحقا، وربما تعدُّ أعمال الأنثروبولوجي السعودي سعد الصويان من الأعمال العربية النادرة التي اقتربت من فكرة موس حول الهبة، لكن عبر بوابة الباحث الأنثروبولوجي الأمريكي مارشال سالنز (بحكم دراسة الصويان في أمريكا). فقد حاول الصويان مثلا استخدام مفهوم الكرم بوصفه مرادفا لمفهوم الهبة، فالمجتمعات البدائية (كما في حال البدو أيضا) كانت تمارس نوعا من أنواع الكرم، غير أن هذا الكرم (أو الهبة وفق تعبير موس، أو اقتصاد المهاداة وفق تعبير سالنز) لم يكن من باب اختياري وإنما إلزامي. فالمانح يقدم هبته للآخر (من قبيلة أخرى)، لكنه في المقابل ينتظر هبة من الآخر في حال جارت عليه الظروف، وفي حالة البدوي، نجد أن ثقافته لا تعرف التراكم، من هنا فإن كرمه شكّل الاستثمار الوحيد الذي يمكن التعويل عليه في مجتمع لا يعرف التكديس والتخزين، وبالتالي تأتي الهبة هنا لتؤسس لمنظومة اجتماعية واقتصادية، تضمن لمقدّمها الحصول على المساعدة في حال تغلبت عليه الطبيعة. وبالعودة إلى ترجمات موس، يمكن القول إن دراساته بعد ترجمة بحث في الهبة، لقيت اهتماما وتعريفا أوسع نتيجة الجهد الكبير الذي يبذله اليوم الأنثروبولوجي أو (الإناسي كما يحلو له وسم نفسه والآخرين المشتغلين في هذا الحقل) الحاج سالم بالتعاون مع الدار الكبيرة، في إنتاجها وترجماتها (الكتاب الجديد)، وأدّى هذا الاهتمام إلى تبنّي مشروع ترجمة كل أعمال موس، بدءا بإعادة ترجمة بحث في الهبة، تبعها قبل فترة الكتاب المنسي لموس، الذي نحن بصدد الحديث عنه «الصلاة/ بحث في سوسيولوجيا الصلاة» وهو عبارة عن رسالة دكتوراه لم يكملها موس في سنة 1909. وقبل الخوض والتعريف بأهم أفكار هذه الأطروحة التي تنقسم إلى جزءين، عني الأول بمناقشة مفهوم الصلاة، والثاني بالبحث عن طقوس الصلاة لدى الشعوب البدائية، لا بد من الإشارة إلى الجهد الذي بذله الحاج سالم والثناء عليه، ليس على صعيد الترجمة وحسب، بل أيضا على مستوى الهوامش والملاحظات التي سجّلها، والتي أجزم أنه لولاها لبقي النص صعب المنال على الباحثين والمهتمين بقراءة هذا الكتاب. الصلاة كطقس اجتماعي يرى موس أن دراسة الصلاة من شأنها المساعدة على إلقاء بعض الضوء على قضية مثيرة للجدل، والمقصود هنا هي العلاقة بين الأسطورة والطقس، ومثار هذا الجدل أن كلتا المدرستين، الطقسية والأسطورية، تطرح أسبقية أحد هذه العنصرين على الآخر باعتبارها بديهية، ما يؤدي لاحقا إلى اختزال المسألة جميعها في بحث أي من هذين العنصرين كان في أصل الدين، ولأن موس بدا متاثرا بالرؤية التطورية، فهو يرى أن الصلاة تعدُّ واحدة من أفضل العلامات الدالة على مدى تقدّم أحد الأديان، فهي تطورت من أصل لا يعدو مجرد بقايا ملتبسة لصيغ مقتضبة ومتفرقة وأغان سحرية دينية، يمكن بالكاد القول إنها صلاة، لتنمو بدون انقطاع وتنتهي إلى غزو المنظومة الطقسيّة برمتها. وأضحت الطقوس التي بدأت في معظمها جماعية تغدو تقريبا مشتركة، وبات يكفي اجتماع قلة من الأفراد لإقامتها.. وانتهى بها إلى أن تغدو ذهنية تماما وجوانية. هنا يقترح موس دراسة أصول الصلاة وتطورها، ومعرفة الأشكال الأولية قبل كل شيء، ولكن كيف يمكن القيام بهذه الدراسة؟ في هذا السياق، يرى أن الأدب التاريخي حول الصلاة قليل، وهو ما قد يعود إلى ندرة الوثائق. ولعل الأديان السامية والديانة المسيحية تمثّل إلى حد ما استثناء في هذا الخصوص. من ناحية أخرى، بقي اللاهوتيون والفلاسفة، المنظّرين الوحيدين للصلاة، مع ذلك يرى أن دراساتهم لا تقدّم لنا سوى نظرة الفيلسوف بشأنها، أو هي ضرب من الخطاب اخترعته السلطة الكنسية أو المتخصصون في أمور المؤمنين، في حين يرى موس أن ما يُهمل في هذه القراءات هو مسألة أساسية تتعلق بمعنى الصلاة، بوصفها ظاهرة اجتماعية، وبوصفها نتاج جهود تراكمية من قبل أجيال من البشر. فهي سلسلة من الكلمات محددة المعنى ومرتبة ولا فضيلة لها سوى ما تضفيه عليها الجماعة. ومما يدل على أن الصلاة في جوهرها ظاهرة اجتماعية، أنه توجد أديان لا تقام فيها الصلاة إلا من قبل الجماعة أو من قبل السلطة الكهنوتية. يرى موس أنه ما من مجال من مجالات الحياة الاجتماعية إلا ولعبت، وما زالت تلعب فيه الصلاة دورا مهما، فهي تُمارس عند الزواج، كما أنها تُمارس عند عقد التحالفات، كما أن لها وظائف اقتصادية، فالصلوات في الغالب أرصدة حقيقية تُسهم في صنع ثروة الطبقات الكهنوتية، كما كان الكثير من القبائل والأديان يرى أن سقوط الأمطار أو الدعاء لتكاثر الحيوانات يحتاج إلى ممارسة طقوس الصلاة.. بيد أنه رغم هذه الرؤى الاجتماعية لدور الصلاة، فإنه ينبهنا إلى أن الصلاة تبقى موجهة في الآخر إلى القوى الدينية التي تُقام من أجلها، ومن هنا فهو يختتم القسم الأول من كتابه بعبارة «إن الصلاة طقس ديني، شفهي، يتصل مباشرة بالأشياء المقدسة». هل عرف البدائيون الصلاة؟ خصّص موس القسم الثاني والأكثر ميدانية من الكتاب للرد على بعض نظريات الأنثروبولوجيات السائدة آنذاك حول علاقة المجتمعات البدائية بالصلاة، وإن كانت هذه المجتمعات قد عرفت أشكالا أولية من الصلاة. فمثلا، يرى الأنثروبولوجي ماكس مولر أن صلاة الهمج كانت في الأصل تعويذة سحرية، وأن الطقوس الشفهية كانت أقرب ما يمكن اعتبارها من قبيل السحر، من ناحية أخرى هناك من انطلق، كما في حال لويس فارنل الذي نشر كتابا عن تطور الدين، من فكرة وجود شعوب لا صلاة عندها؟ وهنا يرى موس أن عدم عثور بعض الإناسيين على طقوس للصلاة يعود إلى تأثرهم بالأطروحة التي تقول إن الصلاة هي مسيحية بالأساس؟ ويؤكد، انطلاقا من دراسة بعض الجماعات القبلية في أستراليا، أن الصلاة من أجل الميت هي من بين جميع أشكال الطقوس الشفهية أكثرها نقاء وأكثرها ندرة وأكثرها جدة، إلا أنه وخلافا لمن يرى أننا لا نعثر عليها سوى في المسيحية، فقد لوحظ وجود هذه الممارسة باستمرار، سواء قبل ملاحظات السيد باركر أو بعدها، فقبيلة «أواهلايي» لم تكف عن تغيير طقوسها الجنائزية، وغالبا ما كانت تترافق هذه الصلاة مع الغناء الجنائزي أمام القبر، حيث تُذكر جميع أسماء الفقيد وطواطمه الرئيسية والفرعية. لا يقتصر موس على إجراء مقارنات بين الصلاة لدى المسيحية والصلاة عند هذه القبائل، بل يتجاوز ذلك للقول بأنه «انطلاقا من الديانات الأسترالية علاوة عن كتلة الأشكال الأولية والمعقدة والملتبسة، ملامح أو بدايات أو محاولات خطاب أكثر اكتمالا»، هنا ربما تذكّرنا عبارة موس بأعمال تلميذه اللاحقة كلودليفي شتراوس، وتأكيده على فكرة أن المجتمعات البدائية قد عرفت أنظمة اجتماعية ودينية واقتصادية متطورة، خلافا للفكرة الإثنية الأوروبية التي كانت تصفهم بالوحشية. وردا على بعض النظريات الأنثروبولوجية التي غالبا ما كانت ترى أن صلوات البدائيين أقرب ما تكون للسحر، يخالف موس النظرة التي تفصل بين الدين والسحر، وعوضا عن ذلك يرى أن السحرة لطالما شكّلوا النخبة الفكرية للمجتمعات البدائية، فهم من جهة يتعاملون مع الآلهة الكبيرة التي غالبا ما يكتسبون سلطتهم منها. ثم هم من جهة ثانية، لا يدخلون في أحاديث مضبوطة مع تلك الآلهة من خلال ما يتلقونه من إلهام أثناء مساراتهم وحسب، بل يتقدمون إليهم في بعض الحالات برغائب، فمثلا نجد عند قبيلة «أنولا» أن الساحر يتوجه بالغناء إلى الروح «غنابايا» كي تأتي وتُشفي المريض. ويخلص موس إلى القول بأن ما كشفته دراسته لحياة الصلاة عند البدائيين هو أن لدى هذه الأقوام ثراء ديني وطقوسي وعناصر صلاة من نمط متطور إلى حد كبير.