مثّلت الكتاتيب - المدارس المصدر الوحيد للتعليم في العالم الإسلامي حتى القرن التاسع عشر. لكن مع ظهور التعليم المدني، أخذ التعليم الديني في التراجع، ليتصدّر التعليم المستمد من تيارات التطرف التي استغلت تراجع دور الكتاتيب في تعليم الأطفال القرآن الكريم، في ظل حاجة المجتمعات المتدينة بطبيعتها إليه، فيما تعجز المدارس الرسمية عن تلبية هذه الحاجة. على جانب آخر، فإن مناهج الدين في المدارس لا تجيب بصورة واضحة على تساؤلات الأجيال الجديدة التي بات التساؤل ديدنها والبحث طريقها للفهم. لذا، فإن تيارات العنف أو الإسلام السياسي تتلقف هذه الأجيال، سواء بالاحتكاك المباشر أو عبر شبكة الإنترنت لتصوغ إجابات بعضها منطقي والكثير منها ملغوم يولد مفاهيم تسوق الشباب نحو هذه التيارات التي، على رغم تنوعها، تستمد أفكارها من كتب صيغت في سياقات، مغايرة للسياق المعاصر، ومن أحكامٍ فقهية لم تعد صالحة اليوم. إن خطورة هذا الأمر لا تحتاج فقط إلى مجابهة المتطرفين بل إلى تحصين أبنائنا ضد التطرف. يأتي في هذا السياق القذف الإعلامي المستمر للدين والمؤسسات الدينية على أنها السبب الأساس في التطرف، ما يؤدي إلى تداعيات عكسية، إذ تزداد المجتمعات تعاطفاً مع مَن ينصبون أنفسهم حماة للدين. هذه الإشكالية تزداد صعوبة إذا كان هذا الخطاب الإعلامي يصدر ممن لا صدقية لهم ولا قبول، فيما ضيوفهم أيضاً دون مستوى إقناع الجمهور. هنا يبدو التعليم الديني في حاجة ماسة إلى الابتعاد من صورته النمطية، اعتماداً على القرآن الكريم في آياته واضحة المعاني، أو على القصص القرآني الدافع إلى التأمل. بل إن الممارسات الإسلامية الأخلاقية تظل بعداً مهماً في هذا الإطار، لكن تبقى الأناشيد مدخلاً حماسياً لغرس قيم المحبة والتسامح، في النفوس الغضة. فمن منا لم يقرأ قصائد أمير الشعراء أحمد شوقي للأطفال في هذا الصدد، بل إن «بردة البوصيري» لشوقي نفسه تعد كذلك مدخلاً لمعرفة سماحة الإسلام ورسوله الكريم. إن التعامل مع مقرر الدين في المدارس بإهمال وهجوم الإعلام على الدين باعتباره منبع التطرف، واقتصار برامج التلفاز على الفتاوى من دون تعليم الناس، لهي أمور تستحق المراجعة. وهنا أستحضر تجربتين، الأولى من دولة الكويت، التي أسست مركزاً للفنون الإسلامية في المسجد الكبير، لعب دوراً مهماً في السنوات الأخيرة في نشر فنون الحضارة الإسلامية مثل جماليات الزخارف المعروفة بالأرابيسك والخط العربي والعمارة، بين الأطفال في الكويت ما يجعلهم يبحثون عن جماليات الأشياء في الحياة وليس العنف. وأصدر المركز ذاته مطبوعات ممتازة، إخراجاً وموضوعاً يوزعها مجاناً على الأطفال حتى تفاعلَ معه الكبار فصار يقيم معارض ومهرجانات للفن الإسلامي خرج ببعضها إلى المراكز التجارية ليوصل رسالته إلى جمهور أكبر. وطلب سفراء دول عدة منها روسيا والصين وفرنسا، مِن وزارة الأوقاف في الكويت نقل هذه المعارض والورش التعليمية المصاحبة لها إلى دولهم. التجربة الثانية هي تجربة قناة «الناس» الفضائية المصرية التي باتت في السنوات الأخيرة عنواناً للاعتدال والتسامح، بعدما كانت قبل ذلك تتسم بالتشدد. تعمل هذه القناة التلفزيونية بموازنة هزيلة مقارنة بالفضائيات الأخرى التي يجرى الإنفاق عليها ببذخ شديد. وبفضل جهود المشرف عليها مفتي مصر السابق الدكتور علي جمعة، بات من يعملون فيها يشعرون بأنهم أصحاب رسالة سامية وانتقل ذلك الشعور إلى ضيوف القناة، من دعاة وكُتّاب وغيرهم من مهنٍ شتى. تلك الرسالة لها بُعدٌ ثقافي وفني يقوم في جزء منه على الأعمال الدرامية، وعلى إبراز المفهوم الحقيقي للتصوف. هكذا، باتت تلك القناة تستحوذ على مساحات كانت تشغلها تيارات التطرف، ونجحت في مدى زمني قصير في الوصول إلى الجمهور العربي، من الخليج إلى المحيط، وأخيراً بات لها مشاهدون في أوروبا وفي بلدان أفريقية وآسيوية غير عربية، بفضل اعتدال خطابها وعصريته. إن حصر الإسلام في فقه العبادات والأسرة وبعض المعاملات، ولّد حصراً آخر للإسلام كدين في فقه الجهاد وتكفير المجتمع، بينما غاب فقه العمران الذي هو أساس الإسلام كدين حياة. من هنا، فإن تدريس هذا الفقه يولد توافقاً مع معطيات العصر ويحث على الإلمام بالعلوم المعاصرة كأداة لعمارة الأرض، ونبذ الحروب.