الشاعر العراقي قاسم سعودي في كتابه الشعري الجديد “الصعود على ظهر أبي” الصادر عن دار العنوان الإماراتية ودار مسعى الكندية يستدعي قصيدة النثر بوصفها مجاله الشخصي غير المُلفّق، إذ يدخل في مفارقتها وكأنها شبكته الصافية لاصطياد الفكرة، أو للتعبير عن وعي مشغول بأسئلة وجودية، فهو لم يركن مباشرة إلى شروطها التأطيرية، ولا إلى “لاقصديتها” ومجانيتها التي تحدثت عنها سوزان برنارد، بقدر ما أنّه وجد في حيّز تلك القصيدة أفقه الحر، لكي يرى العالم عبر عيون حادة (تتسع فيها الرؤيا وتُختزل العبارة)، وعبر أفكار قلقة تُحرّضه على الحفر في الذاكرة والتاريخ والسيرة، حيث تكون لعبة كتابتها رهانا على المغامرة، وعلى اختبار وعيه الإشكالي، أقصد الوعي بما يكتبه، وإزاء ما تستدعيه أسئلة هذه القصيدة، على مستوى ألسنة أدائها الشعري، وعلى مستوى أنسنة مجالها التعبيري، وعلى مستوى اختبار مهاراته في التعاطي مع جملته الشعرية وكثافتها، ومع الصورة الشعرية وما تقتضيه من تشكّلات تعبيرية، استعارية وبنائية تخصّ التكرار ومساحات البياض. قصيدة الذاكرة ضمّ هذا الكتاب الشعري ثمانين قصيدة قصيرة، وبلوحةِ غلافٍ للفنان البحريني علي حسين ميرزا، حاول من خلالها الشاعر أنْ يكتب “قصيدته الشخصية” قصيدة السيرة، والذاكرة، إذ اقترح لعوالم هذه القصائد “وحدةً موضوعية” تقوم على فكرة استدعاء خطاب الحرب والألم، واستدعاء ما يتساقط من تلك الذاكرة الرائية والخازنة، وما يتبدى عنها من فجائع الحرب الطويلة التي عاش رعبها الشاعر خلال ثمانينات القرن الماضي. اصطناعُ وظيفةٍ للذاكرة يعني البحث عن قاموسٍ شعري، له مرجعياته اللسانية، وله مجساته البلاغية والتعبيرية، وله توصيفاته في استدراك ما لم يُفصِح عنه الشاعر الذي غادرته الحرب مع ندوبها العالقة والطاعنة، ورغم أنْ القاموس يعمل كثيرا على محاصرة تلك الذاكرة، إلّا أنّ الشاعر عمد إلى نبش استرجاعي في صناديق ما تحمله من تفاصيل، وخيبات، فضلا عن معاينة شفراتها الموحية بهواجس الموت والحرب والغياب، وتهديد ما هو قارّ وراكز في لاوعي اللغة والعائلة والقاموس ذاته. يكتبُ سعودي قصيدةَ الذاكرة وكأنّه يُساكنها، فهي لذتُه التعويضية، ومزاجُه الجنوبي المسكون بلوعة مَنْ يكتب “ملحمته” الشخصية، إذ يستعيد بطولة الأب، الأخ، وموتهما، وكأنه عبر هذا الموت يكتب شغفَه السري بالحياة، مثلما يحفر -عبرها- في سرائر تلك الذاكرة المحشوة بالوجع والغبار ورائحة العائلة التي تتشظى وسط فجائع الحرب.. قصيدة سعودي تقوم على فكرة الاستعارة الكبرى -الصعود على كتف الأب- حيث تبدو الحرب كأنها القناع الاستعاري المضاد، الذي يُخفي التفاصيل، مثلما يفضحها عبر ضحاياه، وعبر استغراق الشاعر في اصطناع خصيصة “التوهج” بوصفه شرطا من شروط قصيدة النثر كما يقول أنسي الحاج، لتكون “لعبة” الاستعارة هي لعبة المناورة والفضح ذاتها، حيث تتكئ على بنية حكائية، تتسع للمفارقة والتضاد، ولجملة “القص” القائمة على استدعاء فكرة الموت، بوصفها الفضح الوجودي الهشّ للكائن والسيرة والتاريخ. وبرغم أنّ الشاعر يستحضرها بهوسِ مَنْ يكتب وصيته، تبدو -أيضا- أكثر نزوعا لرمزية التمرد عليه وعلى وصاياه، إذ تعمد إلى إعادة تمثّل شفرة الموت استعاريا وحدسياً، من خلال أقنعة الأب، وأقنعة الحرب، وأقنعة الأخ، وكأن هذه الأقنعة المضللة هي حدوس الشاعر ليرى من خلالها أشباحه الغائبة، وسيرة الفقد ومتاهة انكساراته الشخصية. لعبة الأقنعة الأب، الأخ، الطفولة، الحرب هم “العلامات السردية” في قصائد الشاعر، حيث يحضر الأب بوصفه الحكواتي الغائب وصاحب الوصايا، ويحضرُ الأخُ بوصفه رمزا لموت تلك الوصايا، ولفداحة ما تركته الحربُ من فقد، وتحضر الحرب بوصفها الذاكرة الضد، أو اللعبة القاسية في المحو والاغتراب، وتحضر الطفولة لكي يدرك الشاعر أنها فضاؤه النقي، رغبته الحميمة في الاستعادة، وفي اصطناع عالم طهراني، له تشكلاته اللغوية والبصرية، وله حكايته التي تستغرق قاسم سعودي في قاموس لغوي يستنفر طاقة الجملة الفعلية، تلك الطاقة الموحية، والمنسوجة باستعارات شفيفة، لها شغف مَنْ يُحفّز على الرؤيا، وعلى مقاربة تفاصيل الحياة، لكنها تظل مجروحة بالفقد، وبهواجس الجسد العائلي. في يومٍ ما كانتْ أمي تمتلكُ قطعةً ذهبيةً صغيرة، صغيرةً جداً أخذها منها العسكرُ أيامَ الحربِ، أبي شقي عاماً كاملاً في حقلِ القمحِ ليجلبَ لها تلك القطعةَ الذهبيةَ الصغيرة التي تحولتْ إلى رصاصةٍ ساخنةٍ قتلتْ جندياً هناك. أمي الآن لا تتذكرُ تلك القطعة، لكنها ترى في المنامِ كثيراً جثةَ ذلك الجندي الخائف. تقانة النثر التي يتكئ عليها الشاعر سعودي، تبدو أكثر تعبيرا عن تلك النزعة التصويرية، وعن هاجسه في كتابة “القصيدة الشخصية”، فبقدر ما تتكثف في هذه القصيدة تنحاز إلى لعبة التصوير، حيث تركيب المشهد الحكواتي الشعري، واللقطة الشعرية، بما يجعل القصيدة أكثر تمثّلا لبنية الدراما، والسينوغرافيا، والنشيد، والوصف، وعبر استنطاق ماهو خلف أقنعتها، بوصفِ قصيدته تنزع دائما إلى ما يشبه الاعتراف، أو حتى كتابة ما يشبه نص السيرة، أو نص الذاكرة والشهادة، وبكلِّ ما تستدعيه هذه “النصيّات” من أقنعة للاستعادة، ورؤى تتقشر عنها البلاغة، والهتاف، لتبدو القصيدةُ عاريةً، مكشوفةً، فاضحةً، يتبدى فيها الشاعرُ وكأنه يكتب هتافه الشخصي، وحيدا، باحثا عما يمور في مراثي ذاكرته وطفولته التي سرقتها الحرب، لتكون اللغةُ بمزاجها النثري/ التصويري هي لعبة التوهج ذاتها، حيث هذا الاستدعاء، وترسيم العالم عبر تمثلات اللغة، واستعادة وصايا الأب، وروح المكان المشغول برائحة الموتى. يقول الشاعر: في العاشرةِ من عمري وحتى لا أذهب إلى المقهى اشترى لنا أبي تلفازاً صغيراً نشاهدُ فيه كأسَ العالم في الأرجنتين وقتها كان نصفُ بيتنا حديقةً يأتي أطفالُ الحيِّ جميعاً لرؤيةِ كمبس. كنتُ لا أُدخلهم إلّا بقطعةِ حلوى، فلقدْ كنتُ كريماً معهم. بمرورِ سنتين تحوّل التلفازُ إلى دبابةٍ كبيرةٍ، كبرنا جميعاً مع القذائفِ. ماتَ أبي .. ماتتْ الحديقةُ، ذهب نصفُ الأصدقاءِ إلى اللهِ أنجبنا الكثيرَ من الأطفالِ الذين يعشقون كرةَ القدمِ، وما زالتْ الدبابةُ تطلقُ النارَ في البيت….