رغم تعقيدات مشاغل الدنيا التي تجفف أوعية الذاكرة أستعيد من حين لآخر حرارة إحدى جلساتي الممتعة مع المثقف اللامع ورجل الدولة الجزائري الاستثنائي والراحل مولود قاسم حيث قدم لي فيها الوصية التالية بأسلوبه المعبأ بالسخرية والجدّ “لا تضيع وقتك في قراءة معظم كتابات كتابنا المعاصرين لأنها تصدر غالبا عن قراءاتهم للكتب التي صدرت بدورها عن كتب أخرى، وأدعوك أن تقضي ما تيسّر لك من عمرك في الاستئناس بكتب الذين غرفوا من تجاربهم الحياتية في الزمان والمكان ومن معاناتهم في عصورهم". في ذلك الوقت كنت أظن أن صديقي مولود قاسم كان يغالي في النقد التعميمي لمعظم ما يكتب ويطبع في زماننا هذا، وخاصة في الجزائر، ولكن التجارب أكدت لي بما فيه الكفاية أن معظم ما يكتب وينشر راهنا في بلداننا ما عدا القليل منه هو فعلا ترديد لأفكار وردت وتكررت بطرق مختلفة في كتب كتبت من قبل في مؤلفات أخرى نقلت هي بدورها من كتب أخرى وهكذا بلا نهاية. هناك إذن فرق كبير بين أدب الحياة وأدب الكتب، ويتمثل هذا الفرق في الاختلاف الموجود، مثلا، بين الحب الذهني الناشف وبين الحب الواقعي الملموس والمتوقد، وكذلك بين العلاقة الذهنية بالمجتمع وبشره وبين علاقة المعايشة اليومية المتوترة والصادقة معه ومعهم. في هذا الخصوص وجدت كتابا كاملا أنجزه، منذ سنوات طويلة، الكاتب المصري الشهير توفيق الحكيم وخصص معظم فضائه لتحليل ومناقشة مصطلح أدب الحياة، ومصطلح أدب الكتب ومصطلح الأدب في سبيل الحياة، وفي هذا السياق يتحدث الحكيم أيضا عن الفرق الشاسع بين كل هذه المصطلحات ويبرز ذلك بقوله "الاتجاه المميز للأدب الجديد هو لا شك أدب الحياة، وأود قبل كل شيء أن أسميه ‘أدب الحياة‘ لأن عبارة ‘الأدب في سبيل الحياة‘ قد أثارت لبسا وغموضا في الأذهان وجعلت الكثيرين يقولون إن كل أدب حتى المأخوذ من بطون الكتب القديمة في السير والحكم والبلاغة إنما هو في سبيل الحياة وتجميلها وتهذيبها". ويلاحظ أيضا أن أدب الحياة يقوم على "التجربة الحيّة لإنسان أو عصر أو شعب"، ويجب أن "تكون هذه التجربة صادقة…"، وأكثر من ذلك فإن "أدب الحياة أصعب من أدب الكتب، لأنه أكثر اتساعا وغورا، لأنه يشمل الكتب والحياة معا”. وفي الحقيقة فإن موقف توفيق الحكيم من أدب الحياة لا يقصي العمق الثقافي والمعرفي والتاريخي، بل إنه يعتبر هذه العناصر جزءا عضويّا من نسيج أدب الحياة الذي يصطلح عليه ب”أدب التجربة الحيَّة”. ..... كاتب جزائري