على الرغم من كون الفنانة التشكيلية اللبنانية هلا شقير أنتجت ولا زالت تنتج أعمالا تنحى بشكل شبه كليّ إلى التجريدية، فإنه بالإمكان اعتبارها فنانة تشكيلية لأنها ترسم في مجمل أعمالها عالما مجهريا شديد الواقعية دخل إلى فضاء لوحتها مُرحبا به بشكل تلقائي، لكنه عالم أقامت عليه الفنانة عينها الحارسة ومارست عليه سلطتها المُشبعة بنظرتها الفنية الخبيرة بعناصر التشكيل الفني، وهو ما تجلى بوضوح في معرضها الأخير “وقد وعدتني بالربيع” بقاعة “أجيال” البيروتية. ذكرت هلا شقير أنها في لوحاتها لا تسعى إلى تقديم أي رسالة للمُشاهد، وأن لوحاتها التجريدية هي انسياب مصدره داخلها، وتضيف أنه “قد يروق للبعض أن يقيّم مختلف أنواع التحليلات والإسقاطات الشعورية عليها وعلى ما قد تعنيه أو لا تعنيه، تماما لأنها لوحات تجريدية”. ربما يكون في كلام الفنانة هذا “رسالة” من نوع آخر وهي إفصاح عن إقصاء العالم الخارجي والانغماس في ترف التأملات البصرية التي صنعت منها الفنانة عوالم لا تخلو من السحر والانعتاق بالرغم من غياب مُتنفس فراغ في لوحاتها. ولعل هذا الفراغ “غير الموجود” والمشغول بتلك التفاصيل المنمنمة والنقاط والخيوط الدقيقة هو الفضاء ذاته، ولا فراغ في أصل اللوحة ولا حاجة لتكيفها الوجودي معه، أي مع هذا الخواء الذي كُتبت عنه الأساطير والدراسات والأشعار وحاولت سبر أغواره وأثره على البشر أعظم الأعمال الفنية والأفلام السينمائية. ويغيب التضاد في لوحات الفنانة، حتى في عزّ استخدامها لعناصر الضوء والعتمة، والبارز وما يريد الاختفاء، الإيقاع في لوحاتها هو إيقاع “مضبوط”، إن صح التعبير، وهو راض بالقمع رضى القانع بحرية مُلتبسة. وتثير الاهتمامَ الهيمنةُ التي تمارسها الفنانة على أعمالها وهي قيد الإنجاز أو “على ذمة” الخروج من مصنع الذات، أما نتائج التماسك القوي ما بين موازين قوة إنجاز النص الفني، وما بين ما يحدث، في ذهن الفنانة يتجسد في ما يراه زائر المعرض: سيول أو نقاط من خط واحد عرف كيف ينسج ذاته مع فضاء أوّلي تخلى عن خصائصه وأزماته وإيحاءاته الدرامية، ليكون كما هو غير مبال بما قد يستجلب من استقراءات مستفيضة. أمر آخر تتميز به أعمال الفنانة هلا شقير وهو استخدام لون واحد في اللوحة الواحدة، تستنزفه، سواء أكان أحمر أم أخضر أم أصفر، حتى تجفّ الريشة منه، هكذا لتبدو كل اللوحات تظهيرا ساكنا أو تكبيرا متواضعا لعالم مجهري تبدو فيه شتى أنواع التحركات والأمواج والتبلورات صمّاء تتميز بهدوء مُحيّر أحيانا ومُقلق أحيانا أخرى. وتكتب هلا شقير في معرض تقديمها لأعمالها الجديدة هذه الكلمات “حين أرسم/ الكون بالراس (أي بالذهن)/ والفكرة تبرق كالألماس/ لكن نحو الورق تتفحم/ فتات/ وأنا ألملم قوت اليوم”. وتواصل “تتعاقب الأزمنة/ فأنا هنا وهناك/ ثم/ استقريت بهذا المكان/ لا أدري كيف وصلت إليه/ إنه تحت جلدي/ مباشرة”. وربما أهم مرحلة من مراحل تكوين عمل الفنانة هلا شقير تكمن في هذه الكلمات “لكن نحو الورق تتفحّم”. وربما لهذه “الأفكار/الألماس” تتوجه شقير بعنوان معرضها هذا “وقد وعدتني بالربيع”، ربيع يشق طبقات الأرض في لوحاتها، ولكن فقط لينفرد وحده، بزهوته، لوحده. أي ربيع هو ذا الذي تتكلم عنه الفنانة؟ هل هو الحاضر بالتكوّنات المُلمحة إلى ورود خضراء ومجهرية في لوحاتها؟ أم هو في المروج التي رقّت لكثرة ما نسي وتناسى من أهوال الشتاءات السابقة؟ أم هل يحمل العنوان عتاب ما تكنه الفنانة للكون، للوجود، أو لأشخاص ما كان لهم تأثير كبير في حياتها؟ وكما تقول الفنانة قد يحلو للبعض أن يفسّر لوحاتها كما يشاء، لأنها لوحات تجريدية، ولكن يبقى صميم العمل مدويا ولا يحتمل اللبس ولا التأويل وهو ما تُبنى عليه أهم الأفكار وربما أصوب القراءات. تُذكر لوحات هلا شقير بمسامات الجلد وبتكوّنات الأنسجة وانسياب الدم في الأوصال، وهناك لوحة لافتة وهي ربما الأهم من بين لوحاتها، حيث تحيل المُشاهد إلى نسغ التفكير العقلاني ومنطق الوجود المُشيد على مبنى الرياضيات والهندسة الرقمية. كل أعمال الفنانة مشغولة بعمليات تكوينية أساسية لا يمكن أن نتخيل العالم الذي نعرفه من دونها، ولكن ليس هذا أكثر ما يلفت في لوحاتها، فإن هناك فنانين كثيرين غربيين وعربا اشتغلوا على فكرة التكوين من خلال أدق دقائقه، لكن ما يميز نص هلا شقير هو هذه التلقائية وهذا المرور مرور الكرام فوق تفاصيل هائلة ومصيرية في عملية ولادة أو موت العناصر الأولى. ربما في ذلك قدرية ما، إذ تقول “فليكن ما يكون مهما كان رائعا، أو مريعا.. وعلى الدنيا السلام”.