■ قال: الصحيح أن تقول (سيرة فلان) لا (حياة فلان) حين تترجم لحياته؟ وإن قولك (حياة فلان) متأثر بلغات أجنبية. قلت: أما التأثر فلا سبيل إليه فالاستعمال عربي أصالة لا تقليدا. وأما الفرق بين السيرة والحياة فتعال معي: سيرة المرء تحدث في حياته، ولا تحدث حياته في سيرته. فالحياة أعمّ من السيرة التي هي جزء مما يحدث في حياة المرء. هذه اللفظة من الجذر اللغوي (س ي ر) وهو دالّ على استمرار. ومنه: السير. وقالوا إنه يكون ليلا ونهارا. ووصف سير الليل بالسرى. وهذا أحبّ إلى النفس، وقد ورد في التنزيل العزيز: (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ). ومن أمثالهم: عند الصباح يحمد القوم السرى. وقد نتحدث يوما عن الفرق بين السرى والسير، ولماذا تخصص السرى بالليل. ومعلوم أن السرى، ليس من (س ي ر) بل من (س ر ى). والسيرة: الطريقة. وفسروها بالسّنّة، قائلين: لأنها تسير وتجري. وليس الأمر كذلك، تقول: سنة الله (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)، ولا تقول سيرة الله، تعالى. فإذا قلت السنة النبوية، فأنت عنيت شيئا غير ما تعنيه إذا قلت: السيرة النبوية. وإذا رجعت إلى كتب السيرة النبوية فلن تجد فيها ما يعينك على المعرفة الدقيقة للسنة النبوية، التي يكوّنها السلوك والحديث النبوي. وعلى الرغم من ذلك روي أن الشاعر أبا ذؤيب الهذلي كان يرسل ابن أخته خالد بن زهير برسائله إلى جارية لوهب بن جابر، ومع تكرار التواصل بينهما. مالت الجارية إلى خالد، عاتبه خاله، فنظم ابن زهير أبياتا ختمها بهذا البيت: فلا تَجْزَعَنْ من سنّة أنت سِرْتها فأول راضٍ سُنّةً من يسيرُها أي لا تجزع مما فعلتُه. فلم أفعل إلا ما فعلته أنت، إذ حاولتَ إغواء جارية امرئ آخر. واشتق الناس من هذا الجذر مصطلح السيرة الذاتية تقدمها لطلب وظيفة. وفي معظم الدول العربية ليس من الضروري أن تدل السيرة الذاتية على كفاءة حتى تعتمدها جهة التوظيف. ومن الجذر اللغوي: المثل السائر، أي المنتشر بين الناس. وسائر الناس: بقيتهم أو جماعتهم. ويساوره الشك: كأنه يسير معه. وقد وردت السيرة في التنزيل العزيز في قصة عصا موسى (قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الاولَى). وقد ذكر المفسرون أن معنى الآية: نعيدها إلى هيئتها الأولى. وأراه أقل من أن يتسع لمعنى السيرة ولو أراد الهيئة لقال: إلى هيئتها الأولى، لأن كلمات القرآن تؤدي المعنى بلا بواقٍ. فسيرتها الأولى تشمل هيئتها وطبيعتها الجامدة واستعمالاتها كما في: «قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى». ووظفها أحد البخلاء لضرب أرجل الضيوف، وهذا جزء من سيرتها. * أما الحياة فأكثر شمولا ولها معنى مجرّد، ومعنى مجسّد. تقول: الحياة سعيدة. أو الحياة شقية. أو تقول: الحياة الدنيا، بمعناها المجرد في هذه الحالات بلا تجسيد بشخص أو أي كائن آخر. وهذا يختلف عن السيرة لأن السيرة لا يمكن أن تكون مجردة، بل لا بد أن تتجسد بشخص ما. إذ لك أن تقول: عليك أن تكمل دراستك أثناء حياة أبيك. فهنا حياة مجسّدة بأبيك. وليس لك القول: عليك أن تكمل دراستك أثناء سيرة أبيك. فالفصل الذي يُعَنْوَن بعنوان (حياة المؤلف أو الشاعر) مثلا ينبئ أن الباحث يريد أن يستوعب حياة من يكتب عنه، سيرة وقولا. ويحاول أن يستجلي ما خفي من شؤونه كزواجه وأولاده وأسفاره وفقره وغناه وكرمه وبخله، وكل ما جرى في أثناء حياته المحكومة بظروفها المتناقضة. ومنذ أن عرفتُ مصطلح السيرة النبوية، صرت أتجنب استعمال عنوان السيرة في غير السيرة النبوية. وأجزت لنفسي أن أقول في طوايا الكلام: وكانت سيرة فلان حسنة، مثلا. ولا أقصد حياته، بل جزءا منها، إذ تظل دلالة السيرة أقل من دلالة الحياة. فربما يكون قد سار سيرة حسنة في حياة غير مستحسنة. ..... باحث عراقي لندن