على غير المتوقع والمعتاد صدر كتاب “محاكمة طه حسين”، وذلك في خطوة أولى لهذا المشروع المتخصص في توزيع كتاب ثقافي في كل شهر مع جريدة القاهرة التي تصدرها وزارة الثقافة المصرية. واللافت أن الكتاب يتضمن نص تحقيق وقرار النيابة في 30 مارس 1927، الصادر عن المحقق محمد نور رئيس نيابة مصر، حول التحقيق مع الكاتب طه حسين بشأن ما نشر في كتابه “في الشعر الجاهلي”. وكانت بداية الحادثة الشهيرة في تاريخ 14 سبتمبر سنة 1926، حيث تقدم عبدالحميد البنان عضو مجلس النواب، ببيان ذكر فيه أن “الأستاذ طه حسين، المدرس بالجامعة المصرية، نشر ووزع وعرض للبيع في المحافل والمحلات العمومية، كتابا أسماه ‘في الشعر الجاهلي' طعن وتعدى فيه على الدين الإسلامي -وهو دين الدولة- بعبارات صريحة واردة في كتابه سنبيّنها في التحقيقات..”. بتلك المقدمة عرض الكتاب قرار المحقق وأوجز القضية. وفي مقدمة الكتاب (الطبعة الثالثة) حرص كاتبها سيد محمود على إدراج مبررات اختيار كتاب “محاكمة طه حسين” الذي أعده وعمل على نشره من قبل الكاتب خيري شلبي، فأوضح أن الغرض بيّن وهو تأكيد تراث الاستنارة المصري، وذلك ليس فقط باستعادة المعركة التي دارت حول الكتاب المذكور ومؤلفه، وإنما بغرض تأكيد أن هذه الاستنارة كانت جزءا ضمن سياق مجتمعي. وصدر الكتاب في طبعتين من قبل نظرا لأهمية القضية التي يتناولها وللدلالة الفكرية والقانونية التي تتعلق بنشر كتاب وصلت أفكاره إلى أروقة المحاكم. وكان خيري شلبي قد أوضح من قبل في مقدمة الطبعة الثانية للكتاب، التي نشرت عام 1993، “كيف يظن أنه لا يحب كتابا من كتب طه حسين. قدّر حبه لهذا الكتاب الذي نشر للمرة الأولى في بيروت وبأعداد محدودة، ومع ذلك لا يمر من الوقت الكثير إلا ويقرأ مقالا يتناول الكتاب تفصيلا وتحليلا. حتى راج وانتشر بشكل لافت وإلى يوم كتابته لتلك المقدمة للطباعة الثانية”. ويسجل شلبي شعوره بالتقصير كلما قرأ حول الكتاب، فيعاتب نفسه لأنه لم يذهب إلى البرلمان ولم يطلع على المناقشات التي تمت حول الكتاب. كما أنه على علم بأن أربعة كتاب أصدروا كتبا وتحليلات ومناقشة للكتاب وموضوعه، ويرى أنه كان من الواجب عليه الاطلاع على تلك الكتب وتناولها أيضا. ولا ينتهي شلبي من مقدمته تلك إلا ويشير إلى المحقق ويتوقف أمام قراره وصياغاته وأفكاره. فيوضح أنه لم يقرأ صياغة قانونية جافة ومملة، بل إن المحقق عبّر عن ثقافته التي بدت جلية وهو يحقق مع طه حسين، وبدا معبّرا عن وجهة نظره. أما مقدمة الطبعة الأولى، فيقول فيها خيري شلبي معد الكتاب، إنه كان من الممكن أن يحفظ البلاغ المقدم من الشيخ حسنين، لولا أنه في 5 يونيو 1926، أرسل شيخ الأزهر إلى النائب العمومي خطابا يبلغه فيه بتقرير رفعه علماء الأزهر عن كتاب ألفه طه حسين، أسماه “في الشعر الجاهلي” أساء فيه إلى القرآن الكريم صراحة، وطعن فيه على النبي، وأهاج بذلك ثائرة المتديّنين، بما يخل بالنظام العام ويدعو إلى الفوضى. واتسع الموضوع، وبتاريخ 14 سبتمبر 1926، تقدم بلاغ آخر من عبدالحميد البنان عضو مجلس النواب، يذكر فيه اعتداء طه حسين على الدين الإسلامي من خلال مؤلفه، فكان على النيابة أن تحركت. ورغم الأدلة التي ساقها طه حسين وهو يتبع في دراسته أسلوبا عميقا علميا منظما، إلا أنه في النهاية يمس شيئا خطيرا، إذ أنه يمس التراث والمعتقدات الثابتة بأسلوب جديد قريب من المنهج الأوروبي، وهو أسلوب علمي لم يكن سائدا ولا معروفا في مصر، لذا اعتبر الكتاب غير مقبول من أساسه. وفسر طه حسين منهجه قائلا “أريد أن أريح الناس من التعب، إني سلكت مسلك المحدثين في ما يتناولون من العلم والفلسفة بأن أصطنع منهجا استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء. والقاعدة الأساسية هي أن يتجرد الباحث من كل شيء تعلمه من قبل، وهذا المنهج غير مذاهب الأدباء وسواهم”. لذا يعتبر هذا الكتاب على صغر حجمه، وقد مضت 90 سنة كاملة على الأحداث الواردة فيه، وثيقة تاريخية وأدبية يتوجب الاطلاع عليها والتعرف من خلالها على وجهات نظر غير شائعة حتى اليوم، ولا يجب تجاهلها من باب العلم والمعرفة العلمية.