يتألق الفن التشكيلي الليبي في مدينة مصراتة عبر مجموعة من الفنانين التشكيليين أصحاب الموهبة الكبيرة والثقافة العميقة والمعروفين عربيا وعالميا عبر مشاركاتهم المتعددة في المعارض الفنية الكبيرة في كل قارات العالم. أذكر منهم الفنانين محمد الأمين، عادل جهان الفورتية، عدنان معيتيق، مصباح الكبير. لكن لا يمكننا الحديث عن الفن التشكيلي في مدينة مصراتة دون أن نتطرق للفنان الكبير صاحب التجربة الدسمة والذي سبق كل ما ذكرت من فنانين سابقين جاءوا بعده زمنيا وفنيا، حيث بدأ الرسم في أواخر الستينيات من القرن العشرين، وأسهمت القاهرة التي عاش فيها منذ عام 1976 في صقل موهبته عبر مشاركاته العديدة وانخراطه في الجماعات الفنية كجماعة "إضاءة". لم تكن دراسة عمر جهان الرئيسية هي الفن، بل كانت الفلسفة وعلم الاجتماع. في عام 1976 في أوج ما يسمى بالثورة الثقافية الليبية ذات النقاط الخمس التي أطلقها القذافي في خطابه من مدينة زوارة مصادرا بها كل بصيص حرية يمكنه أن يشتعل أو يتألق حيث حرّم الأحزاب السياسية وألغى الدستور وحوّل البلاد إلى كتلة من الفوضى والارتجالية، شد عمر جهان الرحيل إلى قاهرة المعز من أجل الدراسة الأكاديمية، وفي القاهرة عاش تجربة جديدة، حولته من الفيلسوف وعالم الاجتماع المأمول إلى مجنون جديد التحق بركب المبدعين التشكيليين والمغامرين السياسيين من شباب الطلاب الطموح، حيث انخرط في مجموعات الطلبة الليبيين المعارضين لنظام القذافي الديكتاتوري مما تسبب هذا الأمر في حرق طريق الرجوع إلى مصراتة الحبيبة بسحب الجنسية الليبية من الفنان القدير عمر جهان. رضى عمر بقدره الجديد، ولم يشعر أن ليبيته قد سحبت منه، فهو ليبي حتى النخاع، ولا يملك أي دكتاتور أن يسحب منه هويته، أوقف قيده في الدراسة، وقفز بصورة جديّة في بحيرة الفن لينهل منها ويعبر بواسطة حبرها النقي عن مكنوناته، فجاءت رسومه متعددة المدارس إيمانا منه بأن الفن هو عبارة عن عملية ديمقراطية لا يمكن أن تحيط به مدرسة واحدة. فتنقل من الطبيعية إلى السوريالية إلى التكعيبية إلى التجريدية، وفي لوحات كثيرة نجد خليطا من هذه المدارس حتى أنك لا تستطيع أن تنسب اللوحة إلى اتجاه معين. لوحاته بها عمق فلسفي ومعرفي تواكب الحدث وتعايشه. لكل أحداث الأمة والعالم تجد لوحات لعمر جهان وقد تأثرت بها وعبرت عنها. العراق .. فلسطين .. مصر .. ليبيا .. كل حدث نجد له أصداء مهمة في لوحات عمر جهان. ألوانه المفضلة نجدها دائما الأبيض والأحمر والأخضر والأسود. مؤمن جدا بأن ألوان ليبيا التي طمسها القذافي يوم انقلابه ستعود متألقة من جديد، فلن يصمد انقلاب دموي أمام اعتراف دستوري عالمي باستقلال ليبيا داخل أروقة الأممالمتحدة. ألوان عمر المفضلة تتألق من جديد. ريشته تكون سعيدة عندما يغمسها في ألوان علم الأستقلال الليبي. تقول له استرح يا عمر. دعني أرقص قليلا على هذه الأوراق محتفلة بثورة 17 فبراير. أو أقل لك هات ابنك الصغير لأرسم على خده علمنا الوطني الجميل. يقول عمر جهان عن سحب الجنسية منه من قبل نظام القذافي في حوار قديم له: "كان رحيلي عن ليبيا مصادفة من وجهة نظري، إذ كنت رافضاً السلطة الأبوية هناك، وما استتبعها من تهميش القوى السياسية والفكرية والطلابية، غير أن سفري إلى مصر كان بغرض الدراسة فقط، ولم أكن أخطط مطلقاً للاستقرار فيها، إذ شرعت في أطروحة ماجستير عن مفهوم الفن عند أبي حيان التوحيدي، وعندما انخرطت في الوسط الطلابي لليبيين الموجودين في مصر كان لي نشاط سياسي. كنت أعتقد أن ذلك النشاط واجب عليّ تجاه وطني، لكن قوبل هذا النشاط بسحب جنسيتي، ووجدتني أردد مقولة أدونيس: «ليس في وطني ما يطمئن الفراشة»، وبدأت أرتب وضعي من دون مساعدة من أحد لأنمّي قدراتي الفنية وأشبع ولعي منذ الطفولة باللون". تتميز لوحات عمر جهان بتعدد القراءات الفنية، مجموعة من اللطخ والخطوط تأخذ دربها بانسيابية إلى قلب المتلقي، يعتمد دائما على خيالات الأشخاص تمجيدا للإنسان وحريته، خيالات مترنحة ومقطوعة ومتهاوية لكنها شامخة على الأقل فنيا عبر لوحة تشكيلية أبرزتها وراهنت على نجاحها وانتصارها، لا أحد سينكر تأثر الأجيال الجديدة خاصة في مدينة مصراتة من الفنانين بإسلوب الفنان عمر جهان، حتى أن يمكنك أن لا تفرق بين لوحة لعمر جهان ولعادل الفورتية ولعدنان معيتيق ولمحمد الأمين، لكن ستظل حتما لكل فنان رؤيته الخاصة به يستخدم عمر جهان في رسوماته كل المواد التي تمنحها الطبيعة، ألوان بكل أنواعها .. شمع .. تراب .. رمل .. نباتات .. ووصفات سرية أخرى يرفض عمر أن يبوح بها لسائليه. عمر جهان إنسان بسيط. لا متطلبات حياتية كبيرة يطلبها. يحتاج إلى هدوء بسيط. يستقبلك عندما تهاتفه أمام محل سكنه في الدقي. إن كنت لا تعرف العنوان يأتيك حتى محطة المترو، وستعرفه على طول حتى وإن لم تره شخصيا من قبل. لا أحد يضمك بكل هذا الحب والدفء إلا فنان كبير كعمر جهان. يأخذك إلى شقته أو مرسمه. وهناك تشرب الشاي الليبي الأصيل. وتغني مرّة مرّة. انخش الخلاء واندير طاسة مرّة. يعرض عليك لوحاته الجديدة. يتركك تتصفح كتبه ومجلاته. وتخربش حتى بألوانه على الورق فوق المنضدة. يسألك عن الأصدقاء وعن أحوال ليبيا. يمر الوقت سريعا. وتغادره وأنت في حالة نفسية رائعة وروح معنوية مرتفعة. تشعر أن الفن شيء كبير، يجلب الراحة، وإن جلب لك القلق فمعنى ذلك أن البذرة التي زرعها في قلبك عمر قد بدأت تنبت وأنك مقدم على إبداع عمل جديد. مدينة مصراتة أحيانا عندما نتمعن في اسمها لغويا ونبحث عن اشتقاقاته نجده كما هو معروفا شعبيا لدينا أن معناها "من مصر آتا" أي من مصر جاء. فهل سيعود عمر جهان إلى مدينته الحرّة الآن بعد غياب تجاوز 35 سنة في مصر. مصراتة الصامدة التي عجزت كل آلات الدكتاتورية النارية الرهيبة في تركيعها واحتلالها على مدى أكثر من ثلاثة شهور، حتى سماها الصحفيون "ليننجراد الجديدة" سترحب بكل سرور بابنها البار الذي هجرها مضطرا لمدة طويلة. سيعود عمر من جديد لمصراتة ليغمس ريشته في رماد بطولاتها، وفي دماء شهدائها، وفي تمر نخيلها، ليرسم لنا جدارية النصر ولنحتفل بها جميعا على أنغام المقرونة الشجية للفنان الشعبي المصراتي المرحوم الطفل الذي رحل جسديا وتخلد موسيقيا ولنغني جميعا: ليبيا حرّة .. ليبيا حرّة .