ينطلق التشكيلي الإيراني مورتيزا كوزرافي في معرضه البيروتي المعنون ب”أيتها الأشياء الصامتة، هل لديك روح تحركك؟” من نص جيورجيو موراندي الفني، يحاذيه، يجاوره، ينهل من عمق الصمت الذي يسكن لوحاته ليناقضه في صناعة صمت مغاير وفي براعة لافتة غير مُتكلفة، بل منبثقة مباشرة عن اختلاف جوهري بينه وبين الفنان الإيطالي، اختلاف في التجربة الفنية والوجودية والمواقف الشخصية تجاه العالم والذات. من النادر أن تجد فنانا استطاع أن يقدم نصا فنيا متماسكا بهذا القدر، وصادق مع ذاته عبر الاستلهام من فنان آخر يكاد أن يكون نقيضه، وهو متألق بقدر تألق جيورجيو موراندي. أكثر ما يشير إلى براعة مورتيزا كوزرافي هو استطاعة زائر معرضه أن يلحظ بسرعة كبيرة تأثره بالفنان الإيطالي بأسلوب غير اعتيادي، فهو يقبض على ماء الصمت الذي يتسلل في ألوان وأشكال الأشياء في أعمال موراندي ليحولها إلى لوحة مرتجفة وعصبية تضرب عرض جدار لوحاته، المغسولة بألوان باهتة، بكل المُسلمات البصرية. في حين يُشعرنا موراندي بأنه في كل مرة يرسم فيها شيئا من الأشياء العادية، كالأباريق والعلب، يُشعرنا أنه رآها لأول مرة ورسمها لأول مرة، في حين تبدو الأشياء في لوحة الفنان مورتيزا كوزرافي مُرهقة أو مُستنفرة قد سأمت تجلياتها في اللوحة. ويرسم موراندي الأشياء لذاتها بغبطة طفولية، ويرسم الفنان الإيراني “أشياءه” وكأنه غاضب منها، تنبعث من لوحات موراندي سكينة مُطمئنة، أما الصمت البادي في لوحات كوزرافي، فهو صمت قلق ومُقلق على السواء. يتلاقى الاثنان في هدوء الألوان، يكثُر الأبيض والعاجي، والرمادي، واللون العسلي والأزرق الفاتح في لوحة الفنان الإيراني، ولكن ليس في كل اللوحات، إذ يعثر المُشاهد على لوحات عديدة أضرم فيها الفنان النيران، هي الأخرى صامتة، ولكن حارقة بشكل “مُمنهج” تعيد تشكيل الأشياء بدخانها وألسنتها، لأجل ذلك تبدو أشكال أشياء الفنان الإيراني غير مُحددة، بعضها تخترقه خلفية اللوحات وبعضها الآخر يبدو وكأنه قد سال تحت وطأة السأم. تمتد “زجاجات” الفنان عاليا في فضاء اللوحة لتبدو وكأنها على أهبة الاستعداد للانطلاق صعودا، غير أن الصامت الضاغط المُتفشي في فضاء كل اللوحة كفيل بأن يجعل ذلك مجرد وهم اعتاد على كونه وهما لا أكثر. في حين يصمم الفنان جيورجيو موراندي توزيع الأشياء على الطاولة أو على أي مسطح، وكأنه يلهو في ابتكار متجدد لتجمعات تتحاور في ما بينها شكليا غير آبهة بمُتلقيها، ويعمد الفنان الإيراني إلى ابتكار نص “مُريب” بين الأشياء والناظر إليها، هي وحيدة بين المجموعة، غير مُكترثة بما يجاورها من أشياء وإن بلغ حد التجاور الالتصاق وحتى شبه الحلول بأشياء صدف أن وضعها الفنان هنا أو هناك على الطاولة. في لوحة موراندي تكتسب الأشياء العادية التي صادف أنها كانت تحيط به في منزله ظلالا شاعرية، وفي لوحة الفنان الإيراني تحل كآبة غريبة ربما تريد أن تنتقم من الأشياء الموجودة في اللوحة، لأنها حلت عليها فأظهّرتها للعيان، وإذا كانت ثمة شعرية في أعماله، فهي شعرية متوترة فيها شيء من العنف الكامن، عنف في مواضع كثيرة لم يعمد الفنان إلى ترويضه. الضوء يلعب دورا مهما في لوحة الفنانين، ولكن أيضا بطريقة مُختلفة تماما، ففي حين تنبثق أشكال الأشياء في لوحة موراندي من الضوء الذي يحدد معالمها بجلاء واضح، تغرق أشكال كوزرافي في ضوء شبيه بماء بحيرة راكدة، هذا أقل ما يُقال عن تلاقي وتنافر الفنانين. شبحية الأشياء يطلب الفنان الإيراني من مشاهدي لوحاته، كما فعل في معارضه السابقة، أن يكون لهم تأويل شخصي لما يروه أمامهم، لكنه يسارع في تقديم أعماله بهذه الكلمات: “أيتها الأشياء الساكنة، هل تمتلكين روحا؟/ انظروا: إنهم لا يتحركون/ يقولون ما تشاؤون منهم أن يقولوا/ هل تعتقدون أنهم على ما يظهرون؟/ ألا يشبهوننا/ يقولون:/ هل تذكروننا؟/ هل أدركتم بأننا ذاكرتكم الأبدية؟”. من أجل أن تقرأ أعمال الفنان مورتيزا كوزرافي، ليست أعماله المعروضة فحسب، بل أعماله السابقة أيضا، يجب أن تدع نفسك “تتعرض” إلى أشعتها، شرط أن تكون مُحصنا كفاية من الكآبة والقلق الناتجين عن احتكاك الصورة التي يقدمها بالواقع. تهمد الأشياء في خفاياها على مضض، يتمثل ذلك تشكيليا بشفافية لونية تخترق تلك الأشياء المرسومة في أكثر من جانب، وكأنها لا تريد أن يكون لها المصير الذي أراده الفنان لها، أي أن تكون “ذاكرتنا الأبدية”. ترسخ الزجاجيات معتكفة في ظلالها، لكن فقط للحظات قبل أن يتكشف سكونها عن اليد المُحركة التي تقف وراء هيئاتها وأشكالها غير المُستقرة، إنها يد الفنان، اليد الشبحية التي سردت من خلال تلك الهيئات، ليست إلاّ نتفا من ذكريات الفنان الشخصية، نتفا تنطق بالحب، ولكن أيضا بالكراهية، وبالعنف، وبالألم.